أبو القاسم الشابي (1909 - 1934)، تونس

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء، ١٤ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«إرادة الحياة» للشابي : النشيد الوطني من شاعر لم تمهله الحياة


«خُلقتَ طليقاً كطيف النسيم/ وحراً كنور الضحى في سماه. تغرد كالطير أنّى انطلقت/ وتشدو بما شاء وحي الإله». في أقل من عشرين كلمة هنا، تمكن شاعر شاب ذات يوم من أن يعلن برنامج حرية متكاملاً. برنامج حرية يرتبط مباشرة بالطبيعة ليبدو كأنه ترجمة، على سبيل المثل، لمبدأ سبينوزا في الحرية والفرح والحياة، وفي الألوهية أيضاً. كان الشاعر تونسياً وربما لا نكون في حاجة هنا الى التذكير باسمه، فأبو القاسم الشابي ربما يكون واحداً من أشهر الشعراء العرب، وربما تعود شهرته، على أي حال، الى قصيدة وحيدة هي بالتأكيد غير تلك التي افتتحنا بها هذا الكلام. فهل ثمة في دنيا العرب من لا يعرف قصيدته «إرادة الحياة» التي أضحت مع مرور السنين، ولكن بخاصة منذ ثورة الياسمين التونسية، أشبه بنشيد وطني عربي يتغنى به الشباب في معركتهم ليس فقط ضد الديكتاتوريين ومستعبدي البشر، ولكن بخاصة ضد الظلمات؟ وهل ثمة بين الجديين من المنشدين العرب من لم يغنّ أو يحلم بأن يغني تلك الأبيات العابقة بالتفاؤل وحب الحرية وحب الحياة، داعية الى اتكال الشعوب على نفسها، واعدة إياهم بأن القدر سوف يستجيب إن هم أرادوا الحياة؟

منذ أكثر من ستة عقود أقدم كثر من كبار الفنانين العرب، من سعاد محمد الى لطيفة، وصولاً الى المنشدين الشبان في ساحات التحرير وغيرها من تلك الأماكن التي شهدت بدايات «الثورة العربية المغدورة»، لم ينج صوت من سحر الكلمات التي تقول وبكل بساطة وثقة: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر. ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر». هكذا إذاً، تبدأ هذه القصيدة الوطنية العربية الأشهر والتي بات عنوانها مع مرور الزمن «إرادة الحياة». غير أن معظم الذين ينشدون هذه القصيدة ملحّنة أو مرتلة أو على شكل شعر مقروء، قد لا يعرفون أن تلك الحياة التي تغنى بها أبو القاسم الشابي، لم تكن رؤوفاً به. لم تمهله طويلاً، بل تركت للموت أن يختطفه باكراً هو الذي عاش سنواته القصيرة متفائلاً مقدماً على العيش مؤمناً بالبشر والوطن، ولكن غير مصدق أن في إمكان الحياة أن تكون غدارة جاحدة الى حدّ أن تمتنع عن واحد من كبار الذين عشقوها وتغنوا بها، فكان عشقه لها عدوى أصابت الملايين مرتبطة بالحرية في نشيد لم يحظ أيّ نشيد عربي آخر بما يضاهيه. ولئن كنا سنعود الى حكاية أبي القاسم الشابي بعد سطور، قد يكون من الملائم هنا أن نتأمل الكلمات العذبة والقوية التي تتشكل منها «إرادة الحياة».

ففي قصيدته، وبعد بيتي البداية المذكورين، يتابع الشابي: «وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَاةِ/ تَبَخَّرَ في جَوِّهَا وَانْدَثَر. فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْهُ الْحَيَاةُ/ مِنْ صَفْعَةِ العَدَم المُنْتَصِر. كَذلِكَ قَالَتْ لِيَ الكَائِنَاتُ/ وَحَدّثَني رُوحُهَا المُسْتَتِر(...). إذَا مَا طَمَحْتُ إلِى غَايَةٍ/ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر. وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُورَ الشِّعَابِ/ وَلا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُسْتَعِر. وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ/ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر(...) وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ:/ «أَيَا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟». «أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ/ وَمَنْ يَسْتَلِذُّ رُكُوبَ الخَطَر. وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَانَ/ وَيَقْنَعُ بِالعَيْشِ عَيْشِ الحَجَر. هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِبُّ الحَيَاةَ/ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَبُر». إلى أن يقول: «وَقَالَ لِيَ الْغَابُ في رِقَّةٍ/ مُحَبَّبَةٍ مِثْلَ خَفْقِ الْوَتَر. يَجِيءُ الشِّتَاءُ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ، شِتَاءُ الْمَطَر. فَيَنْطَفِئ السِّحْرُ، سِحْرُ الغُصُونِ/ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر(...). وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيعٍ تَأَلَّقَ في مُهْجَةٍ وَانْدَثَر. وَتَبْقَى البُذُورُ التي حُمِّلَتْ/ ذَخِيرَةَ عُمْرٍ جَمِيلٍ غَبَر.(...) وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ/ بِأَجْنِحَةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَر. وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَدَّسِ/ في هَيْكَلٍ حَالِمٍ قَدْ سُحِر. وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ/ لَهِيبُ الْحَيَاةِ وَرُوحُ الظَّفَر. إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ/ فَل بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ».

إذا انطلقنا في الحديث عن الشابي من الإيحاءات التي يتركها اسمه في ذهن القارئ، وأضفنا الى ذلك نضوج شعره، وكونه مثل الى فترة طويلة من الزمن ما يمكننا اعتباره «الجسر الشعري» الوحيد بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وعطفنا على كل ذلك بيت شعره الأشهر، خيّل إلينا أن هذا الشاعر قد عاش من السنين ما كفاه لكي يكوّن لنفسه كل تلك السمعة والمكانة. لكن هذا غير صحيح كما أشرنا الى أن الشابي، حين توفي في تشرين الأول (أكتوبر) 1934، كان لا يزال في الخامسة والعشرين من عمره، أي في تلك السن التي يبدأ عندها كثرٌ بخوض الحياة أو بكتابة الشعر.

إذاً، عندما رحل الشابي عن عالمنا، بفعل قصور في حركة قلبه، ظهر لديه باكراً، كان لا يزال في شرخ صباه. ومع هذا، كانت قد أضحت له شهرة كبيرة في أوساط الشعر والآداب العربية. فكان واحداً من أشهر المغاربة في المشرق العربي، إن لم يكن الوحيد المعروف في المشرق. والحال أن الشابي ظل سنواتٍ قليلة خلت الشاعر الوحيد من شمال أفريقيا الذي يعرفه الجمهور المشرقي ويحب شعره ويستخدم منه، بخاصة، تلك الأبيات والقصائد المفعمة بنوع من الرومانسية الوطنية التي لعبت دوراً لا شك فيه في حياة «الجماهير» العربية خلال العقود الوسطى من هذا القرن.

ولد أبو القاسم في عام 1909 في قريته الشابية بالجنوب التونسي، لأب كان واحداً من التوانسة القلائل الذين درسوا في الأزهر في القاهرة متتلمذاً على يد الشيخ محمد عبده، ثم عاد الى تونس وقد امتلأ بحساسية عربية وبنزعة تطورية راح ينشرها في الحلقات المحيطة به. وكان من الطبيعي لأبي القاسم، الذي وعى على العالم بالقرب من أبيه، أن يتأثر به وأن يرث عنه إيمانه بالوحدة العربية وبالتوق الى الحرية، وكذلك بنزوع نحو التطور. ومنذ صباه الباكر، بدا من الواضح عليه اهتمامه الخاص والكثيف بالروح العربية وبالتاريخ الإسلامي، عبر نظرة ثاقبة ناقدة تجلت في شكل خاص من خلال محاضرته عن «الخيال الشعري عند العرب»، وكان حين ألقاها لا يزال في العشرين من عمره. ومع هذا، كان لها فعل الصاعقة في الأوساط الأدبية، لأن صراحة الشابي فيها وتمرديته على الذهنية الشعرية العربية كما تراكمتا منذ عصر الجاهلية، جعلتاه يرى أن «كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب، وأن الروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ الى جوهر الأشياء وصميم الحقائق، وانما همها أن تنصرف الى الشكل والوضع واللون والقالب (...) فهي لا تتحدث عن الطبيعة إلا بألوانها وأشكالها، ولا يهمها من المرأة إلا الجسد البادي، وهي في القصة لا تتعرف الى طبائع الإنسان وآلام البشر، وفي الأساطير لا تعبّر عن فكر سام وخيال فياض. وانما هي أوهام لائشة وأنصاب جامدة».

نذكر هنا أن الشابي تلقى دروسه العربية (ولم يكن يتقن غيرها من اللغات) بين مكتبة ابن خلدون وجامع الزيتونة في العاصمة التونسية، وكان يطّلع بصورة مستمرة على كل ما ينشر في المشرق العربي. وكان تعرفه الى محمد الحليوي انعطافة في حياته، حيث ساهما معاً في تحرير مجلة «العالم الأدبي» مع آخرين، في الوقت الذي بدأ فيه الشابي بمراسلة جماعة ابوللو في مصر، وهو مدرك أنه كشاعر تونسي لن تكتمل مكانته إن لم يصل شعره الى القارئ العربي في المشرق، وأن العلاقة الشعرية بين المشرق والمغرب لا ينبغي أبداً أن تكون أحادية الاتجاه، إذ يتلقى المغرب نتاجات المشرق ولا يحدث العكس. ومن المؤكد أن جماعة ابوللو رحبت بالشابي ترحيباً كبيراً، بل إن أحمد زكي أبو شادي طلب من الشاعر الشاب أن يكتب مقدمة لديوانه «الينبوع» فكتبها على شكل دراسة عنوانها «الأدب العربي في العصر الحاضر».

> مهما يكن، لا بد أن نذكر أن ديوان الشابي لم ينشر خلال حياته، فهو عجز في أعوام عمره الأخيرة عن جمع الاكتتابات اللازمة لطباعة الديوان، فاكتفى بأن ينسخ العديد من النسخ بيده، وكان يوزعها على أصدقائه. وهو حين رحل كانت كل كتاباته موزعة في الصحف والمجلات، ولا يزال بعضها، حتى اليوم، في حاجة الى من يقوم بجمعه ونشره وتحقيقه.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن الصورة

محمد مندور على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)