تاريخ

آرنولد توينبي ورؤيته الدينية في درا سة التاريخ

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١٢ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
السيد أمين شلبي، كاتب مصري


يرتبط اسم آرنولد توينبي كمؤرخ وفيلسوف للتاريخ، بتقديمه من خلال عمله الضخم «دراسة للتاريخ»، نظرة حية وبانورامية للتاريخ ومفهوماً شاملاً لنمط الوجود البشري منذ بداية الحضارات. وهذه النظرة الشاملة إلى التاريخ هي التي جعلته يتحدى تمركز المؤرخين الغربيين حول تراثهم واعتبارهم أن الحضارة الغربية تقف موقفاً متميزاً ومحتكراً في التاريخ. لذلك، اعتبرت مساهمة توينبي الأساسية في تقاليد المعرفة هي رؤيته للتاريخ البشري من منظور أوسع وتذكيره أبناء حضارته بمساهمات شعوب وحضارات أخرى في التاريخ البشري.

والواقع أنه من الصعب فهم نظرة توينبي العالمية، بل وفلسفته كلها، من دون أن نتعرف إلى مصدرها الرئيسي، وهو الدين، ورؤية توينبي الدينية. وترتكز هذه النظرة على أنه ما دام الله واحداً وهو ما جاءت وبشرت به الديانات العليا وأنبياؤها، يجب أن تكون البشرية واحدة. كذلك، صاغ توينبي تاريخه عن العالم بإحساس ديني بالرسالة، آملاً في أن يساهم هذا التاريخ في تطوير عقلية عالمية اعتبرها شرطاً رئيسياً لحفاظ الإنسان على نفسه، فالبشرية يجب أن تصبح عائلة واحدة وإلا دمّرت نفسها.

والواقع أن عقلية توينبي العالمية أثبتت إنسانية وتسامحاً يشبهان، وكما عبر هانزكون، إنسانية تولوستوي وتسامحه، وشقيتنزر ولسنج. وشأنه شأن لسنج، رأى توينبي اليهودية والمسيحية والإسلام تنويعات على لحن واحد، وأنها جميعاً متساوية في رسالتها الكبرى للبشرية، ألا وهي رسالة الوحدة حول ما هو أعلى من الانقسامات العرقية.

وبالنسبة إلى توينبي كان الدين يمثل نداءً وجعله يشعر بأن كل جهد بشري خلاق هو في النهاية جهد قاحل إن لم يدعم بتقدم الإنسان الروحي والاجتماعي. فقد رأينا هذا الإحساس بالرسالة كان في جانب منه نتيجة لاعتقاده أن مصادفة مرضه أنقذته من الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي جعله يشعر بحاجة عميقة لمساعدة زملائه من البشر، وأن يعتقد أنه في عالم يناضل من أجل البقاء، فإن عليه التزاماً للمساهمة في فهم طبيعة الأزمة التي حلت بالغرب، وبكل العالم، وأن يقدم لها علاجاً.

بهذه النظرة الدينية اعتبر توينبي أنه في دراستنا تاريخ العالم ككل، علينا أن نجعل للتاريخ السياسي والاقتصادي مكانة ثانوية وأن نعطي الأولوية للتاريخ الديني، ذلك أن الدين هو العمل الجاد للجنس البشري. وبالنسبة إلى توينبي، فإن رسالة المؤرخ هي نداء ذات طبيعة خاصة جداً... «إنه نداء الله للبحث عنه والعثور عليه، فالتاريخ هو رؤيا لله وإن كانت رؤية جزئية وضعيفة لله وهو يفصح عن نفسه في أفعال إلى أرواح تنشده بإخلاص». واعتقد توينبي أن مهنته كمؤرخ «هي في النهاية سعي لرؤية الله وهو يعمل في التاريخ»، كما اعتبر أن حقائق التاريخ «هي مفاتيح الطبيعة ومعنى الكون الغامض ومكاننا فيه، وأن الواقع الروحي خلف الظواهر هو الهدف النهائي لكل فضول».

الطبيعة البشرية

وقد نبعت وجهة نظر توينبي حول التاريخ في جزء منها من مفهوم الإنجيل، فإنه من خلال التاريخ تصطدم إرادة الإنسان بتعاليم الله. فالله يظهر للإنسان الطريق إلى الصواب، ولكن الإنسان أيضاً لديه الحرية في تحدي الله، وبينما كانت يد الله تعمل في التاريخ، فقد كان الإنسان هو الذي صنع في شكل أساسي تاريخه الخاص، بذلك جلب الإنسان الثائر المتمرد على نفسه عقاب الله.

كذلك لم يكن مفهوم تويبني عن الطبيعة البشرية منفصلاً عن نظريته الدينية فقد اعتبر أنه في الطبيعة البشرية يكمن «عرق من الشر الشيطاني» يكشف نفسه على المستوى الفردي في تركيز الإنسان على ذاته، وعلى المستوى الاجتماعي في الحروب والخصومات والعداوات الطبقية التي أثبتت أنها مهلكة للحضارات. واعتقد أن الاعتقاد الليبرالي في الخير الجوهري للإنسان هو ضرب من البداهة، فمذابح القرن العشرين دليل كاف على قدرة الإنسان على الشر، غير أن توينبي اعتقد كذلك أن الطبيعة البشرية لديها طاقة كامنة على الخير، وأنه في كل روح بشرية ثمة صراع يجري بين هاتين القوتين الروحيتين المتعارضتين، ومثل هذا الانقسام الروحي يجعل من المجتمع البشري ساحة للحرب المستمرة بين الخير والشر.

ويعتقد توينبي أن الطبيعة البشرية فقدت توازنها، فقد أظهر الإنسان موهبة كبيرة في السيطرة على الطبيعة أكثر من سيطرته على مشاعره الخاصة والحياة مع أقرانه من البشر. وحتى لا يستهلك الشر الإنسان، فإن عليه أن ينشد عون الديانات العليا Higher Religions ويحددها باليهودية، المسيحية، الإسلام، البوذية والهندوسية. ولأن كل إنسان لديه استعداد لأن يتصرف وكأنه مركز الكون، وأن يستغل كل إنسان آخر في العالم، حاولت الديانات مساعدته في التغلب على أنانيته وذاتيته الموروثة، ومساعدة الجماعة على التغلب على عقلية القبيلة المدمرة، وحين يصبح أساس الخبرة والتجربة البشرية هو حب الكائن البشري، فسيعامل الإنسان زميله الإنسان وإخواته البشر باحترام كبير.

غير أن ما جذب توينبي إلى الدين لم يكن نتيجة للالتزام بنظام لاهوتي معين، وإنما الارتباط بالقيم النبوية Prophetic Values، واعتقاده بأن الديانات تمكن الإنسان من أن يجد هدفاً في الحياة، ومن أن يتعامل مع الضغوط والقلق العاطفي، كما أنها تنمي علاقات أفضل بين البشر وتساعد على الرفاهية الاجتماعية. ويجعل الإيمان بالله عند توينبي من الفرد شخصاً أفضل ويبني فيه الضمير الاجتماعي، والقيم الدينية هي فقط التي تستطيع أن تنقذ الإنسان من التكنولوجيا وتجريدها لإنسانيته، والقيم النبوية فقط هي التي تستطيع أن تحول بين البشرية وبين تدمير نفسها.

وفي يقين توينبي أن الإنسان أظهر دائماً مشاعر دينية، ذلك أنه من خلال الدين حاول أن يجيب عن أسئلة جوهرية مثل الهدف من الوجود، ومعنى الموت. وصنف توينبي الديانات عبر التاريخ في ثلاث فئات: عبادة الطبيعة، عبادة الإنسان وعبادة الواقع المطلق Absolute Reality وهو الله. فقد عبر الإنسان عن مشاعره الدينية بعبادة الطبيعة: الحيوانات، المطر، والقمر والكواكب. وكانت آلهة الطبيعة بالنسبة إلى الإنسان البدائي تجسيداً للوجود في ما وراء الطبيعة ولقوى يخضع لرحمتها. وتراجعت عبادة الطبيعة عندما بدأ الإنسان يمارس السيطرة عليها، فالإنسان لا يعبد الأشياء التي تعلم أن يتحكم بها. وفيما استمرت عبادة الطبيعة بعد نشوء الحضارة، فإنها استبدلت بديانة أدنى وهي تقديس الإنسان أو الحاكم المتشبه بالله، أو مؤسسة بشرية مثل الدولة المقدسة. ففي اليونان ألّه اليونانيون أثينا وبذلك أطلقوا الجانب المظلم من الطبيعة البشرية بارتكاب المذابح والاستعباد من أجل جماعتهم التي ألّهوها، وهذا التحويل للجماعة البشرية إلى ما يشبه الله أدى إلى الحرب التي حطمت في النهاية الحضارة الهيلينية. أما الفترة من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي فقد كانت بالنسبة إلى توينبي عصر التنوير والتقدم الروحي، وهي الفترة التي بدأت بالأنبياء اليهود وانتهت بمحمد، ويدخل أيضاً ضمن هذه الفترة آخرون من الأنبياء اليهود وملهمي ديانات أخرى مثل بوذا Lao-tze، وكونفوشيوس، وسقراط.

لذلك، كان توينبي دائم الدعوة لأن يعود الإنسان إلى القيم التي بشر بها هؤلاء، وأصر على أن الديانات العليا قدمت للإنسان العلاج من مرضه الروحي، وأوضحت له كيف يمكن أن يعلو على الجشع والعدوانية وتحسين نوعية علاقاته الاجتماعية. كما نبه إلى أن الديانات العليا علمت البشرية أن الإنسان ليس إلهاً، وأن القوة البشرية محدودة، وأن الحب هو أعظم مظاهر الخير.

ويعتقد توينبي أن الروح البشرية ستقاوم كل جهود العقل بتصفية المشاعر الدينية، فإذا لم توجه المشاعر نحو الديانات العليا، فستجد منافذ أخرى لذلك، فالكائنات البشرية لا تستطيع أن تعيش من دون شكل من أشكال الدين. وإذا لم يكبح العقل ويهذب بواسطة الديانات العليا فسيحتضن الأساطير التي ستقدم مخرجاً لأسوأ عناصر الطبيعة البشرية.

والواقع أن مفهوم توينبي للدين كان شخصياً أكثر منه طائفياً أو تعصبياً. فقد بدأ توينبي في تربيته الدينية كشخص لا أدري Agnostic، ثم سرعان ما استخلص من دراسته في أكسفورد أن «الدين في ذاته هو وهم شخصي». إلا أنه بعد ذلك وبالتأكيد تحت تأثير الحرب العالمية الأولى وظهور النظم الشمولية والحرب الثانية الوشيكة الوقوع، أضفى قيمة لا تقدر على الديانات العليا واعتبر أنها مرجع الإنسان في التغلب على أزماته الروحية والتأكيد له أنه رغم إثمه، فإنه يمكن تخليصه من هذا الإثم.

الديانات العليا

وعلى رغم تقدير توينبي الديانات العليا ورسالتها التوحيدية، فقد رفض بعض نظرياتها التي تفتقر في رأيه إلى الصدقية. فقد أعلن أنه مثلاً لا يستطيع أن يتقبل بعض العقائد المسيحية، واعتبر أن أكبر قيمة في المسيحية، هو مفهومها بأن «الحب الذي يضحي بالنفس هو أكثر الدوافع الروحية المعروفة لنا قوة».

وعلى رغم أن المسيحية احتلت مكاناً مركزياً في فكر توينبي، فقد اعتقد أنها لم تكن وحياً فريداً ونهائياً، فكل الديانات العليا عنده هي مداخل متعاقبة لسر الوجود، وأنها جميعاً تنويعات لموضوع واحد، كما أنها تتوق إلى مساعدة الفرد في بلوغ الهدف الحقيقي للحياة، ألا وهو الصلة الحميمة مع الله وتحرر الإنسان بتعليمه أن الله وحده وليس الإنسان أو ما صنعه هو القيمة العليا في الكون. فضلاً عن أنها تعين الإنسان على التعامل مع محن الحياة.

ورأى توينبي أن الديانات العليا بمخاطبتها البشرية كلها، إنما تمكن الإنسان من التغلب على الحواجز بين الأمم والحضارات، فقد كانت منطلقات ثورية جديدة لأنها جميعاً أعلنت رسالة العالمية ووحدة البشرية، وهو الشرط الذي اعتبره ضرورياً لبقاء البشرية.

ولم يعتبر أنه ينتمي في شكل تقليدي إلى أي من الديانات العليا، لكنه يشاركها قيمها الروحية، خصوصاً الحب والتعاطف، وهو في هذا يفضل «أكبر قدر من الدين على أكبر قدر من العقيدة الحازمة Dogma». لذلك، فهو يريد من كل الديانات العليا أن تفصل العناصر الجوهرية فيها وهي حب الله، ومن ثم حب الإنسان، عن تأكيداتها المذهبية Doctrinal والشعائرية.

والواقع أن ما يعطي فكر توينبي وحدةً هو روحانيته وعالميته وتوقه لأن يرى المجتمع الإنساني موحداً بحب الله. ولازم هذا الفكر اعتقاده الثابت بأن التقاليد الغربية الليبرالية العقلانية لا تستطيع وحدها أن تجمع بين الناس معاً في سلام وزمالة، ذلك أنها لا تستطيع أن تكبح في شكل دائم طبيعة الإنسان الشريرة التي تعرب عن نفسها في الحروب بين الشعوب والصراعات بين الطبقات. ولكي تكون فعالة، فإن الليبرالية والعقلانية يجب أن تستمدا الإلهام من القيم الدينية. وفهم توينبي ذلك على أنه يمثل أكبر مما تبشر به المؤسسات الدينية ورجال الدين، كما فهم الحقيقة الإلهية على أنها قوة تاريخية تتداخل في نسيج وجودنا.

غير أن توينبي لم يكن مؤمناً بسيط التفكير، فعلى رغم عدم إرتياحه لعلمانية الغرب المعاصر، إلا أنه لا يستطيع أن يخون أو يتجاهل ميراث الفكر الذي خلفته الثورة العلمية وحركة التنوير، ولكن ما حاول أن يفعله بإخلاص هو أن يصوغ تآلفاً بين العقل والدين يلائم متطلبات القرن العشرين.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)