حمّى المتاحف في العالم العربي

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8848 الأربعاء 7 حزيران (يونيو) 2017 - 12 رمضان 1438هــ
رشا الأمير - روائيّة وناشرة


حُمّى المتاحف في العالم العربي : عن ذاكراتٍ مَثْقوبة فلا تَمْتَلِئ وأخرى طافِحَةٍ فلا تُحْتَمَل


مضت على العالم عصور طوال لم يعرف خلالها «المُتحف»، فكرةً ومفهومًا وأمكنة تُشَدُّ إليها الرحال. بالطبع، لم يخلُ هذا العالم، عالمنا، من أفراد أدركتهم لوثَةُ اقتناء هذا اللون من الأشياء أو ذاك، فتجمعت لديهم مجموعات من هذه الأشياء توارثها الأبناء عن الآباء، فمنهم من زاد عليها، ومنهم من اكتفى من التركة التي آلت إليه بحفظها، ومنهم من فرّط فيها فتفرّقت أيدي سبأ وهكذا هكذا، مع كل الإخْلالِ الذي يَنْطَوي عليهِ هذا الإيجازُ، إلى أنْ كان الرابع والعشرين من أيار/مايو 1683 حيث افتتح في بريطانيا المتحف الأشمولي، نسبة إلى إلياس أشمول، العالم والسياسي، الذي أهدى مجموعة مقتنياته إلى جامعة أكسفورد. من ذلك اليوم، وبصرف النظر عن السابقات التي يمكن أن نصفها تسامحًا بـ«المُتحفيّة»، والبعض منها على ما تثبت الحفريات، يعود إلى العصور السومرية، من ذلك اليوم بات «المتحف» من هذا العالم. ولا يُظَنَّنَ أنَّ إطلاق لفظة ميوزيم على هذا المرفق باللغة الإنكليزية كانت أقَلَّ تَجديدًا، بالاعتبار اللغوي من لفظة مُتحف بالعربية… فتأصيل لفظة ميوزيم بالإنكليزية، يفيد بأنَّها سارت في الاستعمال، بالمعنى المتعارف عليه اليوم، مع افتتاح المتحف الأشمولي، وليس قبل ذلك.

مقول القول: في هذا المقام على الأقل، لم تسبق بيضةٌ دجاجة، ولا دجاجةٌ بيضة، وما يصح على الإنكليزية يصح في الأرجح، على العربية. وفي أي حال، فليس مما يُسْتَغربُ أنَّ رفاعة الطهطاوي، شيخ المترجمين إلى العربية، هو من أوكل إليه الإشراف على حسن تنفيذ المرسوم، الذي أصدره محمد علي باشا في آب/أغسطس 1935، وأنشأ بموجبه المتحف المصري، عميد متاحف العالم العربي، ولا مما يُسْتَغرب أن هذا المتحف ألحق بعد فترة وجيزة من إنشائه بمدرسة الألسن، التي أنشئت في ذلك العام نفسه على يد الطهطاوي نفسه.

حاصله، كان ذلك اليوم الذي آذن بولادة «المُتحف» بوصفه مرفقًا من مرافق الحداثة في الغرب، ثم كان اليوم الذي استدخلت فيه عربية «النهضة»، المُسَلِّمَةُ بلا لف ودوران ولا كثير جدال، بإمامة الغرب، هذا المرفق إلى لغتها – لغتتنا وثقافتهاـ ثقافتنا… وشأن ما جرى على مرافق مادّية ومعنوية أخرى، استدخلتها «النهضة»، جرى على «المتحف» في ظل ما قام في هذه المنطقة من دول وطنية، وما مر على هذه الدول من عهود (أو لم يمر…). فـ«المتحف» ليس ذلك المكان المجرّد المنقطع عن الحاضر وتحدّياته الذي تُحفظ فيه آثار بَكماء، وتُعرض على الناس، فحسب، بل هو، بمعنى ما، صورة ناطقة من الصور التي يحب، (أو لا يحب)، بلد منها أن يقدمها عن نفسه؛ ويزيدُ من أهميّة «المتحف» في عصر السياحة المعولمة، أنه في طليعة الأماكن التي يَسألُ السائح عنها، متى ما نزل في بلد ما، بل لعله أن يكون، أحيانًا، أحد الأسباب الداعية إلى السياحة في بلد ما ــ أللهم أن يكون هذا البلد مضيافًا سياسيًّا ومتقبلًا أصلًا لفكرة السياحة. «المتحف»، إذن، هنا أو هناك، ليس من هِباتِ الجغرافيا، أو لَعَناتِها، التي يرثها بلد وشعب ما، بفرح أو على مضض، بل جزء لا يتجزّأ من سيرة هذا البلد وهذا الشعب، أي من تاريخه والتاريخ، بوصفه من أعمال البشر لا من أعمال الطبيعة، مهما انْدَسَّت يَدُ الطبيعة فيه، تحت حَدِّ الحِساب والمساءلة. ولأنه كذلك، فالنَّشاط المتحفي، ابتداء من مجرَّد السماح به كشكل من أشكال التعبير المجتمعي، وصولًا إلى رعايته، مرورًا بالرقابة عليه، مؤشر من المؤشرات التي لا تُخطِئُ في الاستدلال على أحوال بلد من بلدان العالم، أو منطقة ثقافية من مناطقه.

مع الاعتراف سلفًا بأنه لا قدم لي راسخة في علم المتحفيات، لا يمكنني ألا ألاحظ، وسط كل ما يشهده العالم العربي، ما يطّرده النشاط المتحفي هنا وهناك: هنا دولة ثريّة تقرّر أنَّه لا يليق بقدرها وقيمتها ألا يكون لديها مُتحف يضاهي اللوفر، أو السميثونيون، وهناك دولة قليلة ذات اليد، ولكن ذات مجد ثقافي تليد لا ترى سبيلًا أرخص إلى التذكير بمجدها ذاك، سوى من خلال تحويل البيوت التي سكنها عظماؤها إلى متاحف «على قدّ الحال»، ( متيحف عبّاس محمود العقّاد أو جبران خليل جبران أو ميخائيل نعيمة) وهنالك دولة تقاتل تنظيمًا يكره التَّماثيل فتصرف جهدها على ترميم متحفها، وعليه قس إلى أن تَصِلَ إلى لبنان فيلتبس المشهد أمام ناظريك ويتعقد. فإذ يبدو النشاط المتحفيّ في كل الدول العربية مرتبطًا، مباشرة أو غير مباشرة، بالدولة، يختلف الأمر في لبنان كل الاختلاف، حيث إنَّ المعظم من النشاط المتحفي المزدهر فيه هو ثمرة مبادرات خاصة ــ وأحيانًا كثيرة في خدمة أجندات خاصَّة. في بلد تصارع فيه «الدولة»، بشق الأنفس، من يوم أن وجدت، لأن يكون لها موطئ قدم وسط جمهرة من الدوَيْلاتِ الصريحة والافتراضية، الصاعدة والسافلة، المتنافسة بلا هوادة المتحالفة بين الحين والآخر في منأى من أي منطق، لقد يبدو من الطبيعي أن تبدو مرافق الذاكرة المرعيّة من قبل الدولة كاليتيم على مائدة اللئام، وواقع الحال أنَّه كذلك مع استثناء واحد وحيد هو المتحف الوطني، الذي قُيِّضَ له، خلال الحرب، من سعى إلى صيانته من العبث بمحتوياته قدر الإمكان، وبعدها، من تبرع لترميمه ورعايته والدعاية له وإدارته. فضلًا عمّا تقدم فلعلَّ أحد الأسباب التي تقف وراء هذا الاستثناء هو أنّ محتويات «المتحف الوطني» أثرية صرف لا خلاف على محمولها التاريخي؛ ومما يؤكد ما تقدم أنَّه غير بعيد عن المتحف الوطني، على أقل من كيلومترين اثنين، يقوم مبنى فريد الطراز كان إنشاؤه مطلع العشرينيات من القرن الماضي شهد، في عداد ما شهد عليه، ما توالى على لبنان من يومذاك من حرب وسلام. وإذ كادت «إعادة إعمار بيروت» التي قادها رفيق الحريري أن تذهب به كما ذهبت بالعشرات من الأبنية الأثرية، فلقد أفلحت حملات ناشطي المجتمع المدنيّ في رفع السيف المسلط على عنق هذا المبنى، وجرى الاتفاق على تحويله، برعاية وتمويل من بلدية باريس، إلى عنوان من عناوين الذاكرة، والنشاطات الثقافية ذات الصلة، تحت اسم «بيت بيروت». رُمِّمَ المبنى وأعِدَّ للافتتاح، ولكنَّ الخلاف على محله من المدينة، وعلى ما يُفْتَرَضُ أن يؤويه من مادة توثيقيّة ذات الصلة بالحرب، وما يُفترض أن يُشرع له أبوابه من نشاطات، يحكم على هذا البيت من بيوت الذاكرة أن يبقى مشروعًا معلَّقًا لا أفق له. صحيح أن المرور بـ«بيت بيروت» المعروف أيضًا بـ«البيت الأصفر»، نسبة إلى لونه، أشبه بالمرور على «قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلَى عُروشِها»، بيد أنَّ الأسف لا يتعلق بمصير هذا المبنى ـ المشروع وإنما بالعبرة التي يدعو خواؤه إلى استخلاصها، ومفادُها فَشَلُ اللبنانيين، حتى إشعار آخر، في تدبّر الفصول الخلافية من ماضي بلدهم وذاكرة أيّامِه. وعلى غرار ما إن «الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ» فهذا الفَشَلُ المتحفي تُظْهِرُهُ النجاحات المتحفية التي تلاقيها التجارب الحِزْبِيَّة والفئوِيَّة. فعلى نحو سبعين كيلومترًا إلى الجنوب من بيروت، على هضبة مشرفة، افتتح «حزب الله» لسنوات خلت متحف مليتا الذي تصفه أدبيات القائمين عليه بأنه «معلم سياحي عن المقاومة في لبنان»، وسواء أأحبَّ المرءُ حزب الله أم كرهه، فلا بد من الاعتراف بأن هذه المنشأة ذات الوظيفة الدعوية الصريحة، أحد نجاحات حزب الله الباهرة بدليل عدد السياح «غير الملتزمين» الذين يقصدونها ــ علمًا أن هذه المنشأة تُدار كمشروع سياحي تجاري بكلّ ما للكلمة من معنى، وعلى عشرات من الكيلومترات إلى الشمال من بيروت، داخل المربع الذي يتخذه حزب القوات اللبنانية، وريث الميليشيا التي حملت هذا الاسم نفسه خلال سنوات الحرب، مَقَرًّا لقيادته، افتتح في عام 2014 مُتَيْحِفٌ هو عبارة عن نسخة بالحجم الحقيقي للزنزانة التي اعتقل فيها سمير جعجع في وزارة الدفاع اللبنانية، وقضى وراء قضبانها أحد عشر عامًا من عمره. بخلاف مليتا المصمم أصلًا لاستقبال الجمهور، فزنزانة معراب، الأشبه بمحابس الرهبان، ليست مفتوحة للجمهور، ولو أنَّها تُؤدي وظيفتها التعبويّة من خلال «رحلات الحج» المنظمة إليها على نية كبار الضيوف والمحازبين المستحقين. هنا أيْضًا، بمناسبة الحديث عن هذين المتحفين، على تفاوتهما في ميزان الحجم، لا بأس من التوقف عند طَرَفِيَّتِهما الجغرافية: لا «رسالةُ الأرض إلى السماء»، الاسمُ الحركيُّ لمعلم مليتا، هي رسالة كلّ اللبنانيين إلى المُرْسَلِ إليه نفسه، ولا زنزانةُ معراب شارة ظلم هو محل إجماع… الخلاصة: كلّ متحف بين أهله ديكٌ وصَيّاح! ولأن المتحف بالمتحف يذكر، فأضعف الإيمان بعد ذكر مليتا والزنزانة من التوقّف عند آخر الملتحقين بنادي المتاحف اللبنانية: «دار النمر للفن والثقافة». قد يبدو غريبًا، بل نابيًا، أن يُضافَ هذا المرفق إلى مؤسسات الذاكرة ذات الوجه والمحمول السياسيين، بل لقد يبدو في ذلك شيء من الظلم، لاسيما وأنَّ كلَّ ما قدمته الدار حتى الآن تَمَيَّزَ بأناقة وحرفيَّة رفيعتين، ولكن مربط الفرس ليس في طبيعة النشاطات التي حملت توقيع الدار، وما على جدول أعمالها من نشاطات واعدة، وإنما في أن ينشَأ أخيرًا، بكل ما لكلمة «أخيرًا» من معنى. متحف «فلسطيني» في بيروت! شأن مليتا والزنزانة اللذين لم يمكن لهما أن يقوما إلا حيث هما، كذلك «دار النمر» التي اصطفى لها القائمون عليها مستقرّا في رأس بيروت ــ عاصمة الشتات الفلسطيني المفتوح على العالم والمنفتح عليه.

يذكر لبنانُ، أحيانًا، بأنه بلد ينام على السياسة ويصحو، ومِنْ مَكْرِهِ أنَّه كذلك وليس كذلك في الوقت نفسه. وإذ لا تخلو الشواهدُ على هذه الازدواجية الحميدة، فالمتاحف الخاصة بعض من هذه الشواهد. ففي عام 2008، في عز أزمة سياسيّة، لم تلبث أن تطورت إلى مواجهة عسكريّة، افتتح في صيدا متحف للصابون أراده القائمون عليه، وهم اليوم من كبار المصرفيين اللبنانيين، تحية إلى آبائهم الذين بنوا ثروة العائلة من صناعة الصابون وتجارته. وفي بسوس، (إلى الشرق من بيروت)، يدفع الشغف أحد كبار الصناعيين العاملين في قطاع النسجيّات إلى إنشاء متحف للحرير (وكما هو معروف، فإن تاريخ جبل لبنان السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي متّصل أوثق الاتصال بزراعة بصناعة الحرير) وبين المتحف الوطني والبيت الأصفر المذكورين أعلاه، في حرم جامعة القديس يوسف، نشأ منذ سنوات قليلة متحف يكتفي من الاسم بحرف واحد من حروف الأبجدية: حرف «الميم»؛ ولا شعوذة في ذلك ولا سحر فالـ«ميم» هي الحرف الأول من «متحف» ومن «معدن» ومن «منجم» وعليه فـ«متحف ميم»، الذي تدين به بيروت لها ومقتدر، هو ببساطة مُتْحَف للحجارة والمعادن النادرة. لا تعدو هذه المتاحف الثلاثة، والثلاثة المتقدم ذكرها، أن تكون نماذج عن مشاريع متحفية كثيرة، منها القائم فعلًا وحقّا، ومنها ما أبصر النور ولم يطل به العهد فاندثر، ومنها ما بقي افتراضِيًّا في نيّة أصحابه، على أنَّها جميعًا، بصرف النظر عن كلّ ما لا يجمع بينها على المستوى الحرفي المتحفي الصرف، تعبّر عن رغبة، «جامحة» أحيانًا، في التأكيد على ذاكرة يفترض أصحابها أن في اسْتِحْضارها، بهذا الشكل أو ذاك، موقِفًا ما، من الماضي والحاضر، لا يكفي التعبير اللغوي للتأكيد عليه. بهذا المعنى، ليسَ كثيرًا الذهاب إلى القول بأنَّ النَّشاطَ المُتْحَفي، هنا أو هناك، بل في كل مكان إنَّما هو ذلك الجَدَلُ، البيزنطيُّ أحْيانًا على غير ما انتقاصٍ من قَدْرِه بنسبته إلى بيزنطة، بين ذاكراتٍ مَثْقوبةٍ لا تَمْتَلِئ وأخرى طافِحَةٍ فلا تُحْتَمَل.

المتحف الوطنيّ اللبنانيّ. متحف الجامعة الأمريكيّة. متحف ميم. متحف سرسق. بيت بيروت. متحف الحرير. متحف الصابون. متحف جبران خليل جبران. متحف مليتا. متحف الحليّ . بيت الفنان. دارة النمر. هذا غيض من فيض متاحف ومُتيحفات لبنان وكلّ متحف يستحقّ مقالاً منفصلاً.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)