من مخيلات النّساء

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 9065 الإثنين 15 كانون الثاني (يناير) 2018 - 28 ربيع الآخر 1439 هـ
بروين حبيب - شاعرة وإعلامية من البحرين


أمراء الأساطير من مخيلات النّساء


يأتي الشاب الوسيم في النهاية ويخطف عروسه على صهوة جواده الأبيض ويخرجها من كل مظالم الحياة، وسواء اتضحت لنا الرؤية أم لا حول حقيقة الشاب الذي قد يكون ضفدعا بشعا أو وحشا لعنته الجنيات، فإنه في النهاية شاب جميل ولديه حصان أبيض، ولديه قصر وحفلة زواج خرافية تنتظره.

نعيش في هذه النعمة إلى أن نكتشف أن سندريلا والثلجة البيضاء وغيرهما من جميلات القصص الخرافية قطعن علينا النصيب. فالشاب الجميل تزوج وعاش في ثبات ونبات إلى الأبد. وأغلب تلك القصص نصدقها مع أنها لا تناسب عصرنا.

إذ أنّ بطل القصص المعاصرة واقعي حتى التشظي، وقد يكون مثقفا وثريا، ولكن الظروف «نيّلته بستين نيلة»! في الغالب بطلنا مفلس، مسلوخ من وطنه، حالم بمجد مضى قد يستعيده ذات يوم بمسح أجواخ مجتمعات المنفى. يا للهول! «يا لهوي.. يا لهوي.. يا لهوي» على رأي الناحبات في المسلسلات المصرية.

بطلنا متعلّم، خريج جامعة، عاطل عن العمل، يعيش بحفنة أكاذيب عن أمجادٍ ينسبها لنفسه، عن ملاعق الذهب التي كان يأكل بها أجداده، والخيول التي كانوا يمطتونها في المساحات الشاسعة لأراضيهم، خيول وإسطبلات وقصور للصيف وأخرى للشتاء، أمجاد لا تنتهي حين تسمعها من فمه فتشفق عليه لأنك بنظرة صغيرة إلى ملامحه ستكتشف أنه مدمن حشيش، السيجارة في يده تحترق، وقلبه يندب عند قدميه على كل ما فقده، أو لنقل على ما يستحيل أن يملكه. بطل، بـ«موتوسيكل» يتنقل بها لتفادي زحام وسائل النقل الاجتماعي، يتناول غداءه على السريع من أحد المحلات الشعبية، «ساندويش شاورما» حين يحتفل، وساندويش أي كلام في أيامه العادية، لا يأبه للعالم الذي يتسلق الكواكب والمجرّات، ويمص بترول جسده ودمائه، لا تعنيه أخبار العالم المتقدم علينا، نعيمه الخاص وجحيمه يتكوّران حوله في الموضوع نفسه.

ثم لا شيء يعنيه في تلك الدوامة الحياتية التي لا تتوقف ولو لأخذ الأنفاس، سوى تأمين لقمة العيش لنفسه ولمن فرضهم القدر عليه، من أم وأخت وأخ وآخرين قد لا تكون القرابة العائلية سببا يحتم عليه التكفل بهم. «بطل من هذا الزمان « على رأي السيناريست ممدوح حمادة، بطل مسحوق، مثقف، حالم، لديه أفكار بديعة جميعها يستحيل تطبيقها في مجتمعنا. بطل يحب ويركض خلف حبيبته كما تركض الكلاب خلف اللحام حين يرمي قمامته. يشرح لها فوران مشاعره، صدقه، خجله، أرقه، يتعثر وهو يركض خلفها وهي منزعجة، يزيد توترها مع كل خطوة يخطوها خلفها، هي الشبيهة بالثلجة البيضاء بياضا وجمالا لا تستحق سوى أمير، وذلك «الكحيان» المسكين، لا يناسبه أي دور من أدوار سيناريو أميرها، حتى دور بواب القصر لا يناسبه، ولا دور حارسه الشخصي. اللعنة على هذا التناقض الذي ولّدته القصص القديمة في أذهاننا، كيف يمكن للرجل أن يكون وسيما وذكيا وناجحا؟

فاتنا أن نقرأ قصصا توجه للذكور لزرع الفكرة في رؤوسهم، فبطل اللحظات الأخيرة لا تاريخ له، وكل التفاصيل التي تبنى عليها قصص الحسناوات الفقيرات أو المعذبات والأبطال المفاجئين تدور حول معاناتهن لا معاناتهم، مثل ساندريلا التي تعرّضت لظلم زوجة الأب مثلا أو مثل الأميرة النائمة التي لعنتها جنية شريرة فعاشت كل منهما التعاسة على مدى صفحات وصفحات من القصة التي انتهت لصالحهما…

هل كانت تلك القصص مجرّد وهم اختلقه الناس لتخدير أوجاعهم؟

وإن كان الجواب نعم، فلماذا لم نخترع نحن ما يخدر أوجاعنا؟ لماذا لم تشتغل محرّكات مخيلاتنا لصنع شخصيات وهمية، تتحول إلى ثوابت أدبية تؤسس لوعينا منذ الصغر؟ هل الخلل في مخيلاتنا أم في النفس البشرية التي تستسلم لمحتوى قصة حدَّ الإيمان بها؟ ألم تصبح تلك القصص اليوم وبعد مئات السنين غذاء فكريا للأطفال؟ ألم تحرف الواقع وجعلت الإناث يعتقدن على مدى عصور أن خلاصهن يكمن في رجل؟ ألم تتحول هذه الفكرة إلى عمود فقري لحياة كل أنثى تستند إليه لتبقى واقفة؟

ألم تثر الجمعيات النسائية والنسوية ضد هذا المخدّر الفكري حتى تم تصحيح قصص، فغيرت نهاياتها وبعض تفاصيلها؟ ألم يصرخن في الشوارع أنهن لا يعتمدن على الأمير الوسيم؟ حتى تبنّى بعض الرجال من النخبة في العالم أجمع هذا الشعار، ونادوا جميعا برفض أي تلويث متعمد لعقل المرأة من خلال الإعلام والفن والسينما والأدب، لأنها مواد أخطر من الحبوب المهلوسة بحكم أن تأثيرها طويل الأمد جدا.

نعرف جيدا أن النسويات على حق، وأنهن بنيلهن استقلالهن تجاوزن مرحلة الطفولة والمراهقة بسلام أكثر، وبتصالح عقلاني مع طبيعتهن البشرية، لكن هل تعرف بقية النساء ذلك؟ ألم يحن الوقت الآن لندخل عمر النضج ونتقبل تغيرات العصر، ونؤسس لأدب مغاير، بمعطيات تبني فينا ما تهدّم؟ وتصحح المفاهيم الخاطئة التي حوّلت المرأة إلى كائن مادي والرجل إلى كائن متوهم أنه بطل.

مجرّد اقتراح لمن آمن أن الذكورة مرادفة للنجاحات في هذا العالم، أو لنقل أن كلامي مجرّد باب أفتحه لمناقشة الأمر من وجهات نظر مختلفة؟ ألا يمكن للسندباد أن يعود إلى بغداد، ويقتني سفينة جديدة، ويمضي في مغامرة بحرية حتى إن لم يكن هناك بحر في العراق؟ ويحملنا جميعا على متن سفينته إلى بلاد الألماس، والحيتان العملاقة، والجزر المتوحشة الخالية من البشر، ويعيد تكوين هذا العربي الجبان الذي يخاف من الحياة لدرجة أنه طوق كل حدودها بالمحرمات؟ ألا يمكن أن نتجاوز أسوار الواقع المر ونخطو خطوات جريئة نحو أحلامنا على الأقل؟ كم هي الحياة مُرّة حين تردمنا من كل الجهات، وكأن ما نعيشه هو يوم الفناء وليس حياة عادية أغلب أطرافها في الحقيقة بين أيدينا وبإمكاننا توجيهها نحو الوجهات التي نريد. وكم هي جميلة حين نتخذ قرارات صارمة تجاهها، على أنها منتج منا وإلينا وكله نابع من أفكارنا وأحلامنا ومدى قدرتنا على تحقيقها. وفي كل الحالات إن كانت قصص أمراء وأميرات الأساطير القديمة أصبحت تناسب الأطفال فقط في عصرنا لأن المستوى الإداركي للبشر تطور، سواء في تلقي الأدب أو الدراما التلفزيونية أو السينمائية، فهذا يعني أن طبيعة مادتنا الخام التي نطعم بها نصوصنا يجب أن تتغير، وبدل أن تكون أحلامنا مستعارة من عصر غير عصرنا، يستحسن أن نبتكر أحلاما تناسبنا، من باب قدرتها على النُّهوض بمعنوياتنا الغارقة في أوحال هزائمنا التي نتقاسمها بشكل غريب حتى تعم تأثيراتها. لا بأس من البحث عن أبطال من الحياة نفسها، ذلك أن المخيلة المهزومة أحيانا لا يمكن أن تقوم من كوابيسها، فيلزمها سطل ماء بارد لتستيقظ وتستعين بما أنتجته الحياة. هل هناك أبطال وسط هذا الرّماد الذي يغطي ما تبقّى من حرائقنا؟ أراهن أن نعم، وأن في كل مدينة أبطالها، فلا بأس برؤيته بمنظار من عصرنا، ولعلّ أقرب طريق لإيجاد أبطال جدد لقصصنا هو أن نصغي مجددا للمرأة وهي تروي حكايات ما قبل النوم لأبنائها، أعتقد جازمة أن مخيلة النساء هي التي صاغت تراثنا الأدبي، ولكنّ الرجل نسبه لنفسه، لهذا نسي أن يحكي عن تفاصيل حياته، وصدّق فعلا أنه البطل المفاجئ وثروته كلها محصورة في ذكورته!

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)