في اللقاء الأخير مع محمود درويش

, بقلم محمد بكري


جريدة الرياض السعودية


النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية
الأربعاء 4 رمضان 1435 هـ - 2 يوليو 2014م - العدد 16809
الصفحة : ثقافة اليوم


جهاد فاضل


قال الشاعر أنسي الحاج في إحدى المقالات الأخيرة التي سبقت وفاته، إنه لم يعد يهمّه في جبران خليل جبران قصصه وكتاباته المعروفة مثل «الأجنحة المتكسرة» ولا آراء الباحثين والنقاد بهذه القصص والكتابات، وإنما الذي يهمه في جبران هو مقالات مجهولة له، ومقابلات قليلة نادرة له مع الصحافة العربية في المهجر، وشذرات غير معروفة تتصل بشخصه أو بسيرته، أما غير ذلك مما أشبع درساً، فلا يهمه، والجديد فيه قليل.

يمكن القول نحو ذلك في الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش الذي يعتبر أكبر شعراء فلسطين في الحقبة الأخيرة، فمنذ وفاته إلى اليوم صدرت دراسات كثيرة عنه وعن دوره وعن شعره كانت في مجملها تتعامل معه كواحد من أعظم شعراء العربية في التاريخ الحديث، شاعر استوعب ميراث الشعر العربي وانطلق به إلى آفاق عالمية، وقد تعامل معه كثيرون كواحد من كبار شعراء العالم في زمانه مثل نيرودا وأراغون ولوركا وإليوار وهذا الرعيل، بداية كان شاعر فلسطين ومراراتها وخيباتها، كما كان شاعر الذرى الشعرية التي ظل يحاول تجاوزها إلى ما هو أرقى منها، كأنه لا يتوقف عن الصعود إلا ليصل إلى النقطة المستحيلة التي تنطوي على كل أسرار الشعر والحياة والوجود. لذلك يفضل كثيرون التعامل مع جوانب أخرى في سيرة الشاعر كي لا يفقد ملامحه الإنسانية التي عرفها فيه كل من اتصل به، ويتحول إلى اسطورة، فالواقع أن شعره الذي وهبه الخلود هو عصارة شخصيته المرهفة المتوترة التي لم يعرف الشعر العربي مثيلاً لها منذ امرئ القيس وصولاً إلى وقتنا الراهن، وكان من الطبيعي أن يكون للمزاجية قسطها البارز في هذه الشخصية المقيمة على الدوام في عين الإعصار.. فإلى المزاج كان يحتكم في أكثر الأحيان، إن لم نقل أن المزاج كان هو الآمر والناهي، ولكن المزاج كثيراً ما كان يتفتق عن أغرب الصور والمواقف.

يروي أنيس صايغ الذي تزامل مع محمود في رحاب الجامعة العربية كمستشارين للأمين العام السابق الشاذلي القليبي، إنه كان يتناول الغداء مع محمود في أحد المطاعم التونسية عندما جاء شاب جلس إلى جانبهما وأخذ يحدّق بوجه محمود طوال الوقت، «وحينما أراد الانصراف، وقد بلغ محمود ذروة الانزعاج، قال له الشاب: ألستَ أنتَ السي محمود درويش؟ فردّ محمود بعفوية ونرفزة: لا، أنا السي درويش محمود.. وكان الرجل يتمتم: سبحان الله! إنك تشبه الشاعر كثيراً.. فالتفت محمود وقال له: ويخلق من الشبه أربعين»..

إنها السخرية المرة التي عُرف بها الشاعر، وبخاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، عندما طغى اللونان الأسود والرمادي على سائر الألوان في حياته، في تلك المرحلة المرة كان بين الشاعر والمقربين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون على صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية. لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول: كنا نتكلم عن الصحة، ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت، «خدعتني الحياة فانخدعتُ»، وظلت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق، وكان محمود في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره.

وتحت عنوان «اللقاء الأخير مع محمود درويش» يروي فيصل دراج ما يستحق أن تستعاد روايته في ذكرى محمود، وما يدل على ثقافة رفيعة كان يمتلكها، وعلى حسّ عالٍ بالتاريخ، فتح الباب مرحباً كعادته، كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة، وصاحبنا شاهين لم يحضر بعد، يقصد الدكتور محمد شاهين أستاذ الأدب، وأخذني على غير عادته إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة، وقال: كيف أحوال الدنيا، قلت: مع الخبرة نتكيف مع وجوه الحياة المختلفة، قال: إن الحكمة تعالج الاخفاق، وبعد عبث بالكلمات قلت: الحكمة هي استئناس الخيبة، قال: الأدق أن نقول: إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة. ويضيف فيصل دراج راوياً وقائع هذا اللقاء الأخير مع الشاعر: لم يكن «اقتصاد اللغة الحكيمة» أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، فمنذ أن كتب «في حضرة الغياب»، سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت: لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب، من بلاغة طه حسين الأزهرية (الحديث في كتاب “الأيام”) وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً، فيه شيء من نثر أندريه مالرو، قال: ليس بالضبط! واقع الأمر أن محمود درويش كان مفتوناً في سنواته الأخيرة، بشخصين هما بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما، مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته.. وكان حوارنا عن «الحكمة البشوشة» استئنافاً لحوار سبق، ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي لقصيدة في أمسية بيت لحم؟ القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام، الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد، ولعل من يرجع إلى كتاب «في حضرة الغياب» يعثر لا مشقة على هذا اللون من الكتابة الذي دعوتُه «بالكلمة الجامعة»، وكان من الأفضل أن نقول: «جوامع الكلم»!

في هذا اللقاء الأخير، يقول محمود درويش عن «لسان العرب» لا أستغني عنه البتة، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه «كتاب نفيس فخيم» كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد.. وعاد ليقول: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة! ويقول محمود في ذاك اللقاء: سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن، الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. ويروي وقائع أمسية في بيت لحم على الصورة التالية: في هذه الأمسية بقيت مغرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة أمام نفسه وأمام أصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري 67 عاماً أقرأ القصائد التي أريد، بالشكل الذي أريد، أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة في الصنعة وطقوس الشطارة. وبعد شرود قال: أخيراً أصبحت أنا كما راودتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً، إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.

يأتي الطبيب الصديق المشهود له بالكفاءة والمعرفة ويقول: العملية خطرة لكنها مأمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبهه، ويذهب محمود إلى الولايات المتحدة لإجراء العملية لتفشل ولتصعد الروح إلى بارئها، وليبقى الشاعر الريحان والروح لإخوانه ولقضيته.

عن موقع جريدة الرياض السعودية


جريدة الرياض أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


عن حقوق نشر الصورة المرفقة بهذا المقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)