فتحية أحمد (1898 -1975)، مطربة القُطرين

, بقلم محمد بكري


 فتحية أحمد... «مطربة القطرين» المَنسِية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣١٧٣ الجمعة ١٢ أيار ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
فتحية أحمد... «مطربة القطرين» المَنسِية


صدرت أخيراً عن «دار الجديد» سيرة المغنية المصرية الشهيرة (1905 ـــ 1975)، من توقيع الكاتب والصحافي المصري محبّ جميل. طارت شهرة أحمد بدءاً من عشرينيات القرن المنصرم، وظلت تطرب بصوتها الفريد، وتعرف النجاح الى أن اعتزلت بسبب المرض. ماتت بعيداً من الأضواء، وخلافاً لأم كلثوم التي رحلت في العام نفسه (1975)، لم تحظ إلا بجنازة متواضعة رافقها فيها بعض أفراد عائلتها، لذا، فهذا الكتاب بمثابة تحية وإعادة إحياء لها ولفنّها.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 كتاب جديد يضيء على مسيرة غامضة و... مجدّدة


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣١٧٣ الجمعة ١٢ أيار ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
فتحية أحمد... «مطربة القطرين» المَنسِية
ساندرا الخوري


إعجاب محّب جميل بصوت فتحية أحمد إضافة الى نقص المراجع الدقيقة والمعمقة حول سيرتها، دفعا به إلى الانكباب على «فتحية أحمد... مطربة القطرين» (دار الجديد) الذي احتاج إلى الكثير من الأبحاث والتدقيق. يعبّر جميل في الكتاب عن دهشته إزاء تضارب المعلومات المتعلقة بحياتها وافتقارها إلى الدقة. وبطيبعة الحال، لم تسّهل هذه الفوضى عملية جمع المعلومات واختيار أكثرها صواباً. كان عليه مطابقتها مع السياقين الزمني والمكاني، والاعتماد على المنطق من أجل صياغة تلك السيرة بأكثر قدر من الصدق، خصوصاً أنه لاحظ أن الكثير من الغموض يحيط بشخصية أحمد.

يتألف الكتاب من 165 صفحة، ضمنها صفحات من صور قديمة، تمزج بين الشخصي والمهني في حياة المطربة، فنراها الى جانب كبار الموسيقيين آنذاك، سواء مطربات أمثال أم كلثوم وأسمهان، أو ملحنين وشعراء تعاونت معهم في أعمال متنوعة.

يوزّع جميل سيرة أحمد على 6 فصول، منطلقاً من نشأتها في كنف أسرة تعشق الفن، الى بروزها في المسرح الغنائي. كما يتوقف عند الملحنين والشعراء الذين عملت معهم، وأسلوبها الغنائي ومشاركتها في عدد من الأفلام السينمائية. ويختتم بنبذة عن حياتها الاجتماعية. الى جانب الفصول الستة، أربعة ملاحق تضع سيرة أحمد في السياق الزمني الذي عاشت ضمنه، فنقرأ عن آراء الصحافة بها وبصوتها، ومكانتها في الساحة الفنية المصرية في ظلّ حضور فنانتين بارزتين غيرها في الوقت عينه هما أم كلثوم ومنيرة المهدية. كما يعرض الكاتب لائحة بأشهر أغنيات مطربة القطرين. دخلت أحمد باب السينما من خلال الغناء لا التمثيل، فكانت لها مشاركة في أفلام «عايدة» و«حنان» و«أحلام الشباب». ومن أشهر أغانيها التي راوحت بين الطقاطيق والأدوار والقصائد «الحلوة أهي قامت تعجن» و«حلاوة الدنيا» و«مصرنا فوق الجميع»...

الغموض الذي لفّ حياة فتحية أحمد يبدأ من تاريخ ولادتها الملتبس بسبب عدم تطابق المصادر. ومن هنا، كان على المؤلف أن يتبع المنطق كما يشرح في الكتاب كي ينتقي من بين المعلومات الواردة في مصادر مختلفة تلك الأقرب الى الواقع بحسب تحليله. ويرجّح أن تكون من مواليد 1905. هي ابنة منشد، كما أن شقيقاتها الثلاث مغنيات.

لم تتلق قدراً كافياً من التعليم، الا أن ذلك لم يمنعها من إتقان أداء القصائد الصعبة ولفظها بطريقة سليمة. وكان نجيب الريحاني أول من اكتشف موهبتها، فأتاح لها فرصة الغناء والتمثيل وفتح أمامها أبواب الشهرة والفن والعمل مع كبار الملحّنين.

اشتهرت باهتمامها الشديد بالتطريب، الا أنه بحسب المؤّلف، تعرّضت للانتقاد في هذه الصدد، واعتبر بعضهم أداءها أحياناً مصطنعاً. من أبرز محطات حياتها الفنية تشكيلها تختاً موسيقياً خاصاً بها في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، رافقها في رحلاتها المتعددة. ومن المشاركات اللافتة أيضاً تأديتها دور أنطونيو في مسرحية «انطونيو وكليوباترا» الى جانب منيرة المهدية عام 1926، في حين كان يُفترض أن يُسند الدور الى محمد عبد الوهاب. واشتهرت أحمد التي غنّت القصائد والأدوار والمونولوجات وعدداً من الطقاطيق، بروح التجديد الذي أضفته على أداء الموّال.

يولي الكتاب أهمية كبيرة لأسلوب أحمد الغنائي وللملحّنين الذين تعاونت معهم في مسيرتها. الفصل الثالث مخصص بالكامل لهؤلاء الموسيقيين الكبار منهم سيّد درويش، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد. يتوقف عند كلّ منهم مقدّماً نبذة عنه وعن تعاونه مع أحمد. نقرأ في الفصل نفسه أيضاً عن براعة أحمد في الموال وتمكّنها من هذا الفن حدّ صعودها المسرح وتنغيمه من دون تنويط أو سابق إعداد. قد يبتعد الكاتب أحياناً عن موضوعه ويستطرد لشرح أنماط وتقنيات الغناء العربي، إنما في محاولة لوضع أحمد في إطار زمنها وإبراز أهميتها آنذاك وفهم ما ميّزها، ويعيد القارئ إلى الحقبة الموسيقية التي عاشت فيها أحمد.

في المقابل، يعمد الكاتب إلى المقارنة بين المراجع، ويدقق في كل نُسب إلى أحمد، حتى لا يقع في مزج معلومات من هنا ومن هناك ورسم بورتريه تقريبي للفنانة. يعطي جميل نبذة مقتضبة عن حياتها الشخصية وعن زيجاتها الثلاث وحياتها الاجتماعية غير الناجحة مقارنة مع صخب حياتها المهنية. رُزقت أحمد بأربعة أولاد من زوجها الأول اسماعيل بك سعيد الذي سافرت معه الى بلاد الشام، كما تزوجت للمرة الثانية عام 1948 من موظّف في وزارة الحربية المصرية، لتعود وتقترن بعد سنوات على طلاقها منه بعازف الكمان أحمد فؤاد علّام.

بطلب من الشاعر خليل مطران الذي تعرّفت إليه خلال إحدى رحلاتها الكثيرة بين الشام ومصر، لُقبت بمطربة القطرين بعد عودتها إلى مصر من بيروت حيث شاركت في جوقة جورج أبيض في مطلع العشرينيات. وشاء القدر أن تنهي حياتها بعيداً من الضجة والمجد في هدوء شقتها القاهرية، وأن تُشيع في جنازة متواضعة لم يحضرها إلا المقربون. يرجّح الكاتب اعتكاف الفنانة وابتعادها من الساحة الفنية إلى المرض وهيمنة أم كلثوم وخلاف نشب بينها وبين مدير الإذاعة المصرية التي التحقت بها لدى افتتاحها في ثلاثينيات القرن المنصرم.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 صاحبة الحنجرة الثمينة... ظلمها القدر


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣١٧٣ الجمعة ١٢ أيار ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
فتحية أحمد... «مطربة القطرين» المَنسِية
بشير صفير


ظلَم القدر فتحية أحمد كما لم يظلم أحداً من أصحاب وصاحبات حناجر الطرب الثمينة، بمن فيهم أسمهان. وقْع الموت المبكر مؤلمٌ جداً طبعاً، لكن ليس على من يرحل إنما على محبّيه. بل إنّه مفيدٌ لناحية التعاطف الذي يولّده تجاه الراحل، والأمثلة كثيرة في الشرق والغرب.

أمّا المرض المزمن الذي يضرب الفنان في بداية أجمل وأنضج مراحل عطائه، فهو أسوأ ما يمكن أن يصيبه. إنه هنا، يدرك إمكاناته، لكنه عاجز. التعاطف معه في مرحلة أولى، يؤدي وظيفته في العزاء ثم يضمحلّ تدريجاً. هكذا كان مصير المطربة الكبيرة فتحية أحمد التي أبعدها مرضها المزمن عن الغناء، وبالتالي عن العطاء والأضواء. والأسوأ أنّه حرمها من توثيق صوتها بأفضل طريقة ممكنة (معظم تسجيلاتها «مونو»، أو أحادية التسجيل). أضف إلى كل هذه المصادفات السلبية، أنّ انكفاء صوت عظيم آنذاك لم يكن يعتبر كارثة، بفعل غنى المرحلة فنياً مع وجود عشرات الأصوات الخارقة. لكننا اليوم نشعر أكثر بخسارة شخصية بحجم فتحية أحمد. خروج إنسان طيب من الجنة لا ندرك هوله إلّا إذا أصبحنا نعيش في سَدوم وعَمورة.

سدوم وعمورة؟ نعم، وقد شاهدنا يوميات أهلها في الدورة الأولى من «جائزة الموسيقى العربية» التي بُثّت قبل فترة على MTV. عاشت المطربة المصرية في جوٍّ عائليّ فنّي، إذ كان والدها أحمد الحمزاوي ملماً بالغناء والتلحين. مارست الغناء منذ صغرها ثم درست مع كبار مطلع القرن الماضي، على رأسهم أبو العلا محمد، فاحترفت الفنّ تدريجاً من خلال انخراطها بالفرق المسرحية (الغنائية) التي ازدهرت في عشرينيات القرن. غنّت بعدها لكبار الملحّنين، على رأسهم سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمد القصبجي («شدو بلبل عالغصون» وهي أول أغنية لها، ثم الفالس الجميل «يا ترى نسي ليه»…) وزكريا أحمد وغيرهم، كما كانت لها تجربة سينمائية بطبيعة الحال (النشاط الحتمي لمعظم المطربين الكبار). أدّت الأشكال الغنائية الطربية من القصيدة إلى الدور والطقطوقة والموّال، وعُرفت بأسفارها الكثيرة بين مصر وسوريا (ولبنان وفلسطين)، فلقّبها الشاعر خليل مطران بـ «مطربة القطرَين»، وقد حصل ذلك في مدينة زحلة (لبنان/البقاع) بحضور عبد الوهّاب وأحمد شوقي اللذين باركا اللقب. ربطتها بأم كلثوم صداقة متينة، فغنّت لها موّال «الناس تقدّم تهانيها» خلال حفلة تكريمية لأم كلثوم لدى عودتها من رحلة علاج عام 1949. ويقال إن أحد تسجيلات «يا حلاوة الدنيا» بصوتها (ألحان زكريا أحمد، من مسرحية غنائية بعنوان «يوم القيامة») حصل بحضور «كوكب الشرق»، وهو تسجيل يعطي فكرة شبه كاملة عن قدرات فتحية أحمد الصوتية. هذا اللحن الرشيق، تلك الرشاقة الخاصّة بشيخ الملحنين، اشتهر لاحقاً بصوت سيد مكّاوي، الذي غنّاه باحتراف، لا شك، غير أنّه ربما بالغ في تظهير جوهره الفرِح من خلال الأسلوب الذي اختاره لأدائه. لكن الست فتحية تؤديه على طريقتها وتستهل الغناء بموّال أقرب إلى الإعجاز في الأداء والعُرَب والتلاوين المرتجلة (يسمح بها شكل الموّال وكذلك مبدأ التطريب لاحقاً في متن الأغنية) والعلو الذي تبلغه بسهولة أكثر من مرة (الـ «مي بيمول» السادسة إذا اعتمدنا الرقم 4 للـ «دو» المركزية، مع الاعتذار من غير الملمّين بالنظريات الموسيقية)، لمن يعرف التسجيل، ويتخطى بنغم ونصف النغم الطرف العلوي (الـ «دو» السادسة) من المدى الطبيعي للصوت الأكثر ارتفاعاً عند النساء (سوبرانو). هذا رغم أن ثمة ملصقات كانت ترفِق اسم فتحية أحمد بعبارة «الصوت الجهوري» (!)، علماً أنه توصيف غير بعيد عن الحقيقة (مطلع «إنّي أراك معي» على سبيل المثال)، فهي تتمتع بقدرة هائلة على الغناء على طبقات متباعدة نسبياً، من ضمنها الطبقات المنخفضة (عند النساء طبعاً).





عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 الموت أهون من خطية !


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣١٧٣ الجمعة ١٢ أيار ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
فتحية أحمد... «مطربة القطرين» المَنسِية
محب جميل


أحاولُ أن أتخيّلني أمشي بين أرصفة شارع عماد الدين في العشرينيات. شابٌ يعتمر قبعةً كلاسيكية، ويُمسك في يديه تذاكر العرض القادم لنجمي الكوميديا نجيب الريحاني وعلي الكسار. وعلى غفلةٍ من الوقت، يفوتني العرض الجديد لـ «سلطانة الطرب» منيرة المهدية التي حشدت لفيفاً من المعجبين والمعجبات لا يُستهان بهم. هنا تُزيّن صور نجمات المسرح والغناء أغلفة المجلات والصُحف المطبوعة. لكن مهلاً لماذا يرتدين تلك الأزياء الرجالية؟ لقد اعتادت النجمات حينها أن يظهرن في هيئة الرجال إلى جانب تبادل الأدوار بين كل منهما. هكذا أصبحت نجمات المسارح والطرب في كل مكان. هؤلاء يمجدّون السلطانة منيرة المهدية، وآخرون يفضّلون الكروانة الجديدة التي نزحت من الريف إلى العاصمة لتصبح بين ليلة وضحاها كوكب الشرق أم كلثوم. أما هي، فقد أُحِيطتْ بهالتها الخاصة كسيدة ربما سقطت سهواً من أواخر القرن التاسع عشر. عُرفت بلقبها «مطربة القطرين» ولمع اسمها بين فحول المطربين والمطربات كنفحةٍ من ليالٍ وّلت. وببساطة أحببتُ «فتحية أحمد».

ناديتها بيني وبين نفسي «توحة» كما كان يغنّجها السميعة والمقربون. منذ أن اقترن اسمها بفرقة الريحاني خلال مسرحية «حمار وحلاوة» عام 1918، أصبحت من نجمات الفرقة حتى انضمت إلى فرقة «الكسار»، وأكملتْ المسيرة. ومن خلال انضمامها إلى الريحاني، حظيت بمكانة خاصة عند فنان الشعب سيد درويش وأطربتنا بألحانه.

كانت القاهرة تحاولُ أن تخرجَ من محنة الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). لم يكن أحدٌ يتخيّل فظائع الحرب، وويلاتها، وجراحها التي لا تبرأ. وجد العامة في الترفيه متنفساً يروّح عنهم. إنهم ما زالوا يذكرون ليالي الوصل في حضرة سادة الطرب عبده الحامولي، ومحمد عثمان، ويوسف المنيلاوي، وسيد الصفتي، وعبد الحي حلمي، ومحمد سالم الكبير، وسلامة حجازي وغيرهم. لم ينفصل الطرب والفن عن حياتهم اليومية. وبالرغم من أن النخبة لعبت دوراً كبيراً في تأطير إتاحته للمجال العام، إلا أن ديناميكية المسارح، وانتشار أجهزة الفونوغراف بين جماهير الطبقة الوسطى عقب الحرب، غيرا قواعد اللعبة. ها هي الطقاطيق تنتشر على كل لسان كالنار في الهشيم. ومطربتنا توقع عقودها الجديدة مع شركتي «أوديون» و«كولومبيا» بعد رحلة جاورت خمس سنوات في بلاد الشام. إنها تشدو بألحان أبي العلاء محمد، وأحمد صبري النجريدي، ومحمد القصبجي، وداود حسني، وصَفر علي وغيرهم. لطالما جذبني ذلك الصوتُ الرخيمُ الآسر. إنها تصعد بالنغمة الواحدة كمنْ يرفع شيئاً إلى أعلى رفٍ ممكن، ثم تهبطُ بها مرةً واحدة كمنْ يدحرجُ صخرةً من أعلى قمة جبل. كل شيء في القاهرة يتبدلُ مع نهاية العشرينيات، فقد ولد الاتحاد النسائي عام 1923، وأصدرت «روز اليوسف» أول مجلة غير نسائية عام 1925، وأنتجت عزيزة أمير أول فيلم روائي صامت عام 1927 إلى جانب تدريس السيدات للمواد العلمية في الجامعة عام 1929.

لكن يبدو أن كل ذلك الزخم لم يشفع لفتحية التي قررت الانزواء في بيتها، والتفرغ لتربية الأولاد حتى جاءت الثلاثينيات بحلوها ومُرها. انعقد مؤتمر الموسيقى العربية الأول عام 1932، ودعا إلى الحفاظ على الموسيقى الشرقية الأصيلة. لكن محاولات التجريب والتجديد عند مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهّاب لم تهدأ، وبدوره انطلق القصبجي في نسج قطعه اللحنية المُبهرة. ما زلت أشعر باللذة الطربيّة ذاتها كلّما استمعتُ إلى توحة تشدو «يا ريت زمانك وزماني يسمح ويرجع من تاني يا ريت». إنها واحدة من أشهر طقاطيق الثلاثينيات التي جذبت الصغير والكبير.

كانت توحة تكدُّ في عملها بين الفرقة المسرحية الصغيرة التي أسستها، وأطلقت عليها «حديقة فتحية» كما كانت من بين أوليات المطربات اللواتي يدخلن الإذاعة المصرية عام 1934. في عام 1938 تذكرت توحة المرة الأولى أمام الميكروفون في مجلة «الراديو المصري» حيث قالت: «لقد عمدت إلى خلق الجو الفني الذي اعتدته بأن ألبست رجال التخت الملابس الرسمية، وبأن ارتديت ملابس السهرة، فلّما انطلقتُ في الغناء صوّرت لنفسي وجوه المستمعين وقد أقبلوا على الاستماع من حولي مرحبين، وفي هذا الجو أذعتُ للمرة الأولى. ولاحظت أن المذيع الذي كان معنا في الغرفة قد استخفه الطرب، فراح يحركُ قدميه يتتبع الوحدة ويتمشى مع النغم، فكانت هذه الحركة باعثة إلى نفسي يقيناً بأنني ملكتُ زمام نفسي وزمام الجمهور! وكان النجاح المنشود». نعم، كانت في قمة مجدها الفني أمام ميكرفون الإذاعة، ومع مرور الوقت جذبتها شاشة السينما كما جذبت آخرين من قبلها على رأسهم جميعاً المجدّد عبد الوهاب، وأميرة الطرب نادرة، و«كوكب الشرق» أم كلثوم. لقد تحوّلت الإذاعة المصرية الحكومية تدريجاً إلى حصن مهيب يضمُ نجوماً ونجماتٍ أثروا الحياة الفنية لفتراتٍ بعيدة. من هنا مرت نجمة السينما الأولى ليلى مراد، والصوت الكريستالي أسمهان، والموسيقار الشجيّ فريد الأطرش، وفارس الغناء التقليدي صالح عبد الحي، والبلبل المغرّد نجاة علي، وغيرهم. لكن يبدو أن صوت فتحية حفر في أذني بريقه الخاص، ورنته الشرقية العذبة. أليست هي من أطربتنا في فيلمي «عائدة» و«أحلام الشباب» عام 1942 من دون أن تظهر على الشاشة؟ وتألقت في أغنيات رياض السنباطي خلال الأربعينيات حين أدت بطولة فيلمها الوحيد «حنان» عام 1944؟ لكن حداثة الأربعينيات، وتموجاتها الفكرية، والاجتماعية، والثقافية سحبت كل ما في الوردة من شذى، وأبقت فقط على وريقاتٍ مصبوغة بصبا الأيام. كنتُ أتخيّلها كغصنٍ يقامُ الريحَ بكل ما أُوتي من قوة، لكن الرياح تعصف بمجرى السفن. بدأت الخمسينيات بكل ما فيها من تحوّل اجتماعي وسياسي واقتصادي. لقد أُطيحَ بالملك، وتحولت البلاد من ملكية إلى جمهورية. نافخ الأبوا الأسمراني النحيل أصبح نجم النجوم، ومعه بدأت مرحلة فنية جديدة. اختفت أجيال، وظهرت أخرى. حليم هو نجم شباك السينما ودار الإذاعة. كانت السيطرة في البدايات السينمائية لعبد الوهاب قبل أن يظهر في المشهد كل من محمد فوزي وفريد الأطرش. واكتظت الإذاعة مجدداً بأصوات نسائية جديدة أمثال: شادية، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وغيرهن. من نهاية الأربعينيات إلى الوقت المذكور، نافسن بين الإذاعة والسينما إلى جوار نجمات الشام النازحات صباح، ونور الهدى، ونجاح سلام... لقد ظلّت توحة تقاوم حتى النهاية رغم المرض والخلافات الإدارية داخل الإذاعة. تارة تحضر من خلال ألحان أحمد صدقي، وأحمد عبد القادر، وطوراً من ألحان محمد الموجي، ومحمود الشريف، ورؤوف ذهني. لكن استراحة المحارب قد حانت مع مطلع الستينيات بعد مرض السكري. رحلة طويلة قطعتها في عالم الفن اكتفت في نهايتها أن تجلس وحيدةً في شُرفة شقتها في وسط القاهرة بين أصص النباتات والزهور. حياةٌ بسيطةٌ يظللّها حضور زوجها عازف الكمان السَكندري أحمد فؤاد علّام بعد زيجتين غير موفقتين. أتخليها الآن في تلك اللحظات بينما تضعُ إحدى أسطواناتها على جهاز الفونوغراف. ينطلق الصوتُ شجياً من ألحان شيخ الملحنين زكريا أحمد: «حلاوتها لما تصفا لي أنا وأنتم واللي في بالي» حتى تصل إلى المقطع «ومادام الدنيا ماهيش دايمة، وقيامة على العالم قايمة، حلوها وأفرحوا بيها، والطيّب اعملوا فيها، أحباب والأنس يجمعنا». كلّما كنتُ أتمعن في سطور سيرتها، كنتُ أتخيّل ضحكتها الصافية، ونكتها الحاضرة بين الشخوص. لماذا قررت البحث عن فتحية أحمد: هل لقلة في المعلومات حولها، أم لشغفٍ يتعلّق بصوتها؟ أشعرُ برغبة تدفعني تجاه هؤلاء الذين جرفتهم الأيام تحت أقدامها بعدما كانوا من ذوي الموهبة والنجاح. كلّما حاولتُ أن أشرح لماذا فتحية أحمد، فشلتُ، لكن يقيني أن هذا الصوت الرخيم كان يذكرنا جميعاً بأيام لكل منا فيها نصيب.

* مؤلف كتاب «فتحية أحمد... مطربة القطرين» (دار الجديد)

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 "مطربة القُطرين"... لماذا انطفأ نجمها؟


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 15-04-2017
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


<article3972|cycle|docs=4707,4708,4709,4710,4711>


تحت عنوان “فتحية أحمد مطربة القطرين”، يستعيد الباحث المصري محب جميل، مسيرة فنانة لمعت في عشرينات القرن الماضي، ونافست منيرة المهدية وأم كلثوم على عرش الغناء العربي، وتزعّمته لفترة قصيرة، ثم راحت تتراجع تدريجياً، قبل أن تدخل في دائرة النسيان، لتصبح صوتاً من أصوات الماضي في الخمسينات. تأتي هذه السيرة الموثّقة في كتاب صدر حديثا عن “دار الجديد” في بيروت، وتتألّف من مقدّمتين وستّة فصول وأربعة ملاحق تستكشف حياة “مطربة القطرين” ونتاجها الفني المنسي.

في كتاب “الغناء المصري” الصادر سنة 1966، تحدّث الناقد الموسيقي كمال النجمي عن أصوات اختفت بعدما لمعت، وأصوات لمعت واستمرّت في اللمعان، ورأى أن “بين الأصوات التي يغدر بها الزمن، والأصوات التي يخضع لها الزمن، تقف مجموعة من الأصوات لا يغدر بها الزمن ولا يخضع لها، بل تتراجع إلى الوراء سنة بعد سنة، حتى تبتعد عن دائرة الضوء، وتقف في الظل، وربما في الظلام”. وأضاف: “في العشرينات كان كثير من المستمعين يرون أن فتحية أحمد هي صاحبة الصوت الأول، قبل منيرة المهدية وقبل أم كلثوم. ولم يكن صوت أم كلثوم في ذلك الحين قد استكمل نضجه، لكن نضجه السريع المبهر، دفع بصوت فتحية إلى الخلف، فأصبحت المطربة الثانية، وعاشت في هذا المركز، وهو مركز ممتاز، فترة طويلة، ثم استراحت في الظل، وعاشت فيه متقاعدة أو شبه متقاعدة”.



قبل صدور هذا الكتاب بفترة وجيزة، نشر أحمد ابو الخضر منسي، كتابه “الأغاني والموسيقى الشرقية بين القديم والجديد”، واستعاد فيه سير أبرز الفنانين “القدامى الذين مضوا”، وتساءل: “أنكتب في فتحية، وهي، أطال الله بقاءها تعيش معنا، ولا تبرح تغني؟”، وكتب سيرة مختزلة لهذه المطربة التي “كانت من أبرز فحول القديم وفي حلبة الفن والطرب لا يلحقها أحد”، لأن عدم ذكرها مع مَن ذكره مِن “مشهوري المغنين والمغنيات” يشكّل نقصاً في كتابه. وقال مستدركاً: “لكن جلى اليقين عندنا عن الحيرة، إذا قارنّا بين ماض لفتحية وحاضر، فلم نجد شبهاً ولا صلة، فهي في قديمها كأنها فارقتنا وفارقت دنيانا، لأصالة قديمها وسمو فنها. فهي على هذا حقيقة أن تكتب فيها ونسجل. أما حاضرها فهي تغني ما يلحن لها اليوم ملحنو الجديد، وهو كعجالة الراكب، عادي زهيد لم يرشحه شيء لأن يتبوّأ مكانه في الفن الرفيع. وهي للعيش ومجاراة لهذا الزمان الذي يخالف زمانها الذي كانت فيه تجول وتصول، مكرهة أن تغنيه. وشتان بين قديم كان للفن وفي الفن خالصاً، وجديد للضرورات ومطالب العيش”.

رأى كمال النجمي أن فتحية تراجعت إلى المرتبة الثانية بعد نضوج صوت أم كلثوم. في المقابل، رأى أحمد ابو الخضر منسي أن فتحية تفوّقت على أم كلثوم بفضل “عبقرية” أدائها، وقال في مدحها: “فنانة من طبقة الشيوخ ومن مطربي القديم، وفيها ابداع وعبقرية، والعبقري يسمو على النابغ طبقات، إذ النابغ يأخد ما لقنه فيقيمه أصولاً وفروعاً، ويؤديه بحذق وإجادة، أما العبقري فيتعدى الحدود ويبدع في ما أخذ، ويرسم لنفسه ما يلهم به محسناً متفوقاً في إحكام. فأم كلثوم في رأينا تؤدي الذي طرح عليها في استواء واستقامة وبراعة، مع صوت قد استوفى شروط القوة والجمال، وإن كانت تعاب بالغناء المردد. فهي لا تبرح تعود عوداً على بدء، أعني أنها تكرر عشرات المرات قطع اللحن وشطوره نغماً ولفظاً بعينها، لا تنويع فيها ولا تبديل، وتزينه بحركات وأداء مستظرف، وتجول فيه بما تلهم، مع احتفاظها بالأصل الذي لقنته. وأم كلثوم يرفدها ويقويها في غنائها تخت حوى أبرع العازفين كالقصبجي وأمثاله، ومن وراء ظهرها أعوان من أساطين الملحنين، وأما فتحية فبنفسها كانت تقوم، وبأي تخت كانت تهيج من طربك، وتستحوذ على لبّك، وقد سمعتها في بعض الليالي الغوابر، وقد توسطت تختا من العازفين العاديين غير البارعين، ففكانت تارة تثير في رجالها اليقظة فيتبعونها مستجيبين، وتارة لا تبالي أن تخليهم وعجزهم سادرين”.



يعود محبّ جميل إلى فتحية أحمد، والدافع الأوّل شغفه بهذا الصوت، وتناقض المعلومات المكتوبة عنها، فالمعلومة المكتوبة في مصدر ما “تنافيها معلومة كتوبة في مصدر آخر، حتى تلك التي عاصرت حياة فتحيّة”، كما أشار في المقدمة. شرع الكاتب في التنقيب “عن كل ما يتعلّق بها من أخبار، ومقالات، وحوارات في الصحافة المصرية، بداية من عام 1918 حتى عام 1975”، واستمع إلى جميع ما أُتيح له “من تسجيلات تجارية أو إذاعية، في محاولة لرسم خطّ بياني واضح لصوتها، ومسيرتها الغنائية”. في أربعة فصول مترابطة، يستكشف الكاتب سيرة “هذه المطربة التي بدأت حياتها الفنية طفلة صغيرة على مسرحي نجيب الريحاني وعلي الكسّار، ثم رحلت إلى سوريا عدّة سنوات، وعادت إلى مصر بمرافقة تخت عازفين. وبعدها قامت بتسجيل مجموعة من الأسطوانات التجارية قبل أن تلتحق بالإذاعة المصرية اللاسلكية، وتدخل عالم السينما لاحقاً”.



في الفصل الثالث، يسلّط الباحث الضوء على أسلوب فتحية المميّز في الغناء، ويستعرض نتاجها مع كبار الملحنين الذي رافقوها في مسيرتها. في المرحلة الأولى، لمعت فتحية مع سيّد درويش وأبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي وداود حسني ومحمد القصبجي وصَفر علي. في العام 1934، دخلت “مطربة القطرين”، الإذاعة المصرية، في أوّل عهدها، واستمرّت في الغناء فيها أكثر من ربع قرن، وتعاونت مع رياض السنباطي وزكريا أحمد في الحقبة التي سبقت سقوط الملكية مرحلة التسجيلات الفنية، بعدها غنّت من ألحان محمد عفيفي وأحمد صدقي وأحمد عبد القادر ومحمود الشريف ومحمد الموجي، و"عندما بدأت الإذاعة المصرية تحتشد بنجمات ونجوم آخرين من أجيال مختلفة، قرّرت الانسحاب بهدوء، والبقاء في منزلها حتى آخر حياتها".

خصّص محب جميل الفصل الرابع للأفلام السينمائية التي شاركت فيها فتحية، وهي ثلاثة، أوّلها “عايدة” من بطولة أم كلثوم، وفيه “شاركت بصوتها بعد إجراء الدوبلاج، ووُضع صوتها على حركة شفاه الممثلة فردوس حسن”. بعدها، شاركت فتحية للمرة الثانية عن طريق الدوبلاج الصوتي على حركة شفاه مديحة يسري في فيلم “أحلام الشباب”، وغنت من ألحان فريد الأطرش ثلاث أغنيات، “وانقطعت عن السينما سنتين حتّى ظهرت للمرة الأولى على الشاشة في دور البطولة في فيلم حنان، وفيه حظيت بأربعة الحان بديعة وضعها رياض السنباطي ومحمد القصبجي وصَفر علي”.



في الفصل الخامس، نتعرّف على فتحية في سنوات المجد، يوم كانت الشام بيتها الثاني بعد مصر، ولُقّبت بـ"مطربة القُطرين". وفي الفصل السادس، نستكشف نجاحها الفني وفشلها الاجتماعي، بحسب تعبير الكاتب. عاشت فتحية أيامها الأخيرة “بين صفحات الماضي واسطوانات مجدها الفني”، ورحلت في نهاية العام 1975، وشيّعت إلى مثواها الأخير “في جنازة متواضعة غاب عنها معظم رجال الفن”.

يضم الملحق الأول باقة من المقالات تشهد للمكانة العالية التي بلغتها فتحية أحمد في عصرها الذهبي، منها مقالة من العام 1977، استعاد فيها مصطفى أمين قصة المنافسة التي قامت بين منيرة المهدية وفتحية أحمد وأم كلثوم. ونجد في الملحق الثاني كتابات تؤرّخ لهذه المنافسة، وتشهد لتفوّق فتحية واحتلالها المركز الأوّل في العام 1926. بعدها، انتصرت أم كلثوم، ودفع هذا الانتصار بصوت فتحية إلى الخلف، “فأصبحت المطربة الثانية، وعاشت في هذا المركز فترة طويلة، ثم استراحت في الظل”، كما كتب كمال النجمي العام 1966.

يبقى السؤال مطروحاً، ولا نجد له الجواب الشافي: لماذا انطفأ نجم فتحية أحمد سريعاً في نهاية الأربعينات، ولماذا لم يمدّها زكريا أحمد بألحانه حين قاطع أم كلثوم على مدى عشر سنوات، ولماذا توقّف كبار الملحنين عن التعاون معها بعدما قدموا لها باقة من أجمل ألحانهم في الماضي ؟

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



 كتاب عن حياة فنانة القرن العشرين التي أهملها المؤرخون


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 28-06-2017، العدد : 10675، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - عمار المأمون


مازالت المكتبة العربيّة الموسيقيّة تفتقر إلى المراجع التوثيقية التي تضبط تطور الموسيقى العربيّة وحياة أعلامها أو منتجهم الفنيّ، بحيث يعتبر البحث عن سيرة أحدهم أو تطور شكل موسيقي ما، عملية صعبة وشائكة كون أغلب المعلومات المتعلقة بتلك الفترة ليست دقيقة، ويغيب عنها التنظيم المنهجي كما أن بعضها ضاع إلى الأبد، فأغلب أرشيفات محطات الإذاعة ومؤسسات التلفزيون والسينما العربيّة ليست على درجة عالية من التنسيق والحفظ، ما يترك الباحث في تاريخ الموسيقى العربيّة أمام عملية بحث مجهدة، إذ عليه إيجاد المواد الأولية والتسجيلات ثم ضبطها وتوثيقها، نظرا لغياب الجهود الببليوغرافية الجادة في هذا المجال، ثم الخوض في عمليات تحليلها سواء فنياً أو جمالياً وحتى سياسياً.

في كتابه “فتحية أحمد- مطربة القطرين” يسعى الشاعر والصحافي المصري محبّ جميل إلى ضبط المواد الأرشيفيّة للفنانة فتحية أحمد، في محاولة لرصد سيرتها الفنيّة من وجهة نظر توثيقية، محيطاً بجوانب حياتها المختلفة سواء الشخصيّة منها أو العامة، مستعيناً بالصور والنصوص والوثائق الرسمية وغير الرسميّة إلى جانب الأرشيف الفني الخاص بها، لتقديم كتاب وثائقي عنها يؤرخ ويؤرشف مسيرتها الفنيّة وتطورها والتبدّلات التي طرأت عليها، إلى جانب علاقاتها مع فناني وفنانات عصرها سواء في مصر أو في المنطقة العربيّة.

إرث الخمسين عاما

يناقش محب جميل في مقدمة الكتاب، الصادر عن دار الجديد في بيروت، سبب اختياره لفتحيّة أحمد وسعيه إلى الكتابة عن حياتها وتوثيقها، وذلك إثر دافع شخصي كون صوتها بنظره من الأصوات المؤثرة في بدايات القرن العشرين، إلى جانب غياب المواد الدقيقة عن حياتها في الصحافة أو الكتب، فتاريخ ميلادها مثلاً مازال موضع شكّ، ويرجح جميل أنها ولدت إما عام 1905 وإما سنة 1908 وذلك بالمقارنة مع الأحداث المرتبطة بطفولتها والتي لا شكّ في صحتها.

عمد جميل إلى بناء الكتاب على أساس تقسيم موضوعاتيّ أحياناً وزمني أحيانا أخرى، إذ يتناول الجوانب الشخصية المرتبطة بها وما توفر من أخبار عنها وعن نشأتها وسط أسرة فنيّة، فوالدها الشيخ أحمد الحمزاويّ اشتهر بكونه منشداً ومبتهلاً إلى جانب خالتها “العالمة” الشهيرة باسم بمبة كشر، وأختها الكبرى المغنيّة رتيبة أحمد، ثم نقرأ عن اكتشاف موهبتها في المدرسة حيث دعتها إحدى المعلمات للغناء، إلا أنها تركت المدرسة ليكتشفها بعدها أحمد عسكر ليتدخل نجيب الريحاني بعدها ويدخلها عالم المسرح الغنائي في سن مبكرة حيث ألهبت مشاعر المشاهدين بغنائها وسذاجتها الطفوليّة في بعض الأحيان.

نكتشف بين الصفحات أيضا بعض الجوانب الخاصة بفتحية أحمد والقصص والنوادر المرتبطة بسيرتها، كذلك يرسم جميل ملامح السنوات الأخيرة من حياة الفنانة، التي أنهكها مرض السكري وجعلها تعتزل الساحة الفنيّة في منزلها لتستقبل الضيوف وتتغنى بماض وإرث فنيّ يمتد إلى أكثر من خمسين عاماً، لتوافيها المنية في منزلها في العام ذاته الذي رحلت فيه أم كلثوم.

نقرأ في الكتاب أيضاً عن رحلات فتحية أحمد المتعددّة والتي ساهمت بصقل ثقافتها الموسيقية وتوسيع مجالات التجريب الموسيقي التي عرفتها وتقديم ما هو جديد للساحة الموسيقية المصريّة، كما يخبرنا جميل كيف حصلت فتحية أحمد على لقب مطربة القطرين، إذ تعرّف عليها الشاعر خليل مطران في مدينة زحلة وطلب من أحمد شوقي ومحمد عبدالوهاب أن يطلقا عليها هذا اللقب لغنائها في كلّ من سوريا ومصر، إلى جانب نيلها لقب ملكة المواويل، إذ يرى جميل أنها أتقنت ارتجالها وتكرارها بألوان مختلفة، ليقدم خلال تحليله هذا مقاربة نقديّة للمواويل وأنواعها وطبيعة تقسيماتها ومقاماتها المختلفة.

التجديد الموسيقي

نجد في الكتاب بحثاً مفصلاً عن علاقة فتحية أحمد بالملحنين مثل سيد درويش وزكريا أحمد وأبوالعلا محمد وأحمد صبري التجريدي ورياض السنباطي وتأثير كل منهم على صوتها ومهارتها في الأداء، حيث ساهم كلّ منهم بأسلوبه في تطوير ثقافة فتحية أحمد الموسيقيّة وقدراتها على اكتشاف مساحات جديدة من صوتها، كما يشير جميل أيضاً إلى تجربتها في سوريا وتعاونها مع فناني تلك الفترة، إلى جانب علاقتها بالمسرح الاستعراضي ودور بديعة المصابني التي ساهمت صالتها في شهرة العديد من فنانات تلك الفترة ومنهن فتحية التي كانت لها وصلة قدمتها لفترة في صالون المصابني.

كذلك نقرأ عن أدوارها المسرحية والسينمائية إلى جانب قامات عصرها من فنانات وفنانين شكّلوا المرحلة الذهبية للموسيقى العربيّة، كما لا يخفى الصراع مع أم كلثوم التي حاولت أن تهيمن على الساحة الموسيقيّة والإطاحة بمنافسيها.

يقدم الكتاب في ملاحقه الأربعة مقاربة ببليوغرافية لسيرة فتحية أحمد، إذ يستعرض ما كتب عنها في صحافة عصرها كما في روز اليوسف والرسالة والكواكب وآراء النقاد فيها وفي أعمالها المختلفة، ثم توثيقاً لمختلف أعمالها الغنائية سواء أكانت طقطوقات أم أغنيات للمسرح أو السينما، إلى جانب إفراد ملحق للاستفتاء الذي طرحته مجلتا روز اليوسف والمسرح في العشرينات من أجل معرفة أي نجمة “يفضّلها غالبيّة السمّيعة”، مستعيداً الصراع الجماهيري في تلك الفترة والجدل حول النتائج خصوصاً أن التصويت الجماهيري انتهى بأن تكون فتحية أحمد هي الفائزة لكونها محبوبة الجماهير لا أم كلثوم أو منيرة المهديّة.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



 فتحية أحمد: اكتشفها الريحاني ومدحها العقاد


جريدة الحياة


الجمعة، ١٣ أبريل/ نيسان ٢٠١٨
جريدة الحياة
القاهرة - هيام الدهبي


كانت فتحية أحمد حالة استثنائية فريدة، فهي على رغم حصولها على لقب مطربة القطرين لتنقلها الدائم بين ربوع الوطن العربي، لا تزال مجهولة للكثيرين ولا سيما في أيامنا هذه. دخلت فتحية أحمد عالم السينما من باب التمثيل وليس الغناء أولاً. إذ شاركت للمرة الأولى عام 1942 في فيلم «عايدة» لأم كلثوم إلى جانب عباس فارس وسليمان نجيب وكان الإخراج لأحمد بدرخان، عندما تم وضع صوتها على حركة شفاه الممثلة فردوس حسن وأيضاً على حركة شفاه الفنانة مديحة يسري في فيلم «أحلام الشباب» من بطولة فريد الأطرش ومن إخراج كمال سليم، بينما جاءت مشاركتها الفعلية تمثيلاً وغناءً عندما أتاح لها الفرصة نفس المخرج في فيلم «حنان» وشاركها البطولة كل من بشارة واكيم وسراج منير، وهو الفيلم الوحيد في مسيرتها الفنية. هذا على الأقل ما كشفه لنا الشاعر والصحافي محب جميل في كتابه «فتحية أحمد... مطربة القطرين» الصادر عن دار الجديد.

ويضيف جميل، أنه كان لفتحية أحمد (1905-1975) أسلوب مميز في الغناء، فهي صاحبة صوت قوي رخيم وواسع المساحة في قراراته وجواباته، كما امتازت بقدرتها على التنويع والتلوين والتدرج في الأشكال الغنائية المختلفة. فهي من أسرة فنية لوالد منشد هو الشيخ أحمد الحمزاوي وشقيقاتها الثلاث مطربات عرفن بجمال الصوت هن رتيبة ومفيدة ونعيمة، كما أن خالتها هي الراقصة الأشهر «بمبة كشر» والتي قامت بإنتاج أول فيلم مصري عام 1927. وقد كان أول من اكتشفها الفنان نجيب الريحاني عام 1918 حين أتاح لها الغناء والتمثيل في مسرحه ووصل أجرها إلى 18 جنيهاً وهو مبلغ مرتفع في زمانها.

وبعد تجربة الريحاني انضمت فتحية أحمد إلى فرقة أمين صدقي وعلي الكسار، وظهرت في روايات عدة يغلب عليها الطابع الكوميدي وكانت تجربة مثمرة وناجحة في مشوارها، كما كانت هذه المرحلة هي القنطرة التي أتاحت لها الدخول إلى الوسط الفني.

ويشير جميل إلى أن فتحية أحمد- والتي كانت تعشق فن الموال وصارت ملكة لــه ونجحت في أن تفرض نفسها كمطربة فــي عالم الغناء- تعاملت مع أشهر ملحنين في عصرها مثل سيد درويش وأبو العلا محمد الذي أصقل موهبتها في طريقة الأداء والنطق السليم وأحمد صبري النجريدي والذي كانت ألحانه تميل إلى البهجة والإيقاع السريع، ومحمد القصبجي الذي كانت له نكهة موسيقية خاصة تجنح إلى التحرر والانطلاق، ورياض السنباطي الذي قدمت معه مجموعة من القصائد الغنائية المطولة لكبار الشعراء، وأحمد صدقي والذي غنت له 14 لحناً في الإذاعة المصرية وغيرهم.

قال عنها الكاتب عباس محمود العقاد: «إن صوتها يمثلها تمثيلاً عجيباً في البساطة والطيبة وراحة القلب والصراحة». بينما قال الشاعر صالح جودت: «في صوتها فوق الحلاوة قوة. قوة في الأداء وقوة في التعبير. إنها تحس معنى الكلمة التي تغنيها فترسل معها من أعماقها نغماً تعبيرياً تنعكس صورته على قسمات وجهها»، أما شيخ الملحنين زكريا أحمد فقال: «إنها تحترم عملها الفني إلى حد التقديس وكانت تعكف على دراسة الأنغام والمقامات والتواشيح حتى تكون لديها خلفية فنية للغناء».

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


فتحية أحمد على ويكيبيديا





عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)