رحيل المغني الفرنسي شارل ازنافور 1924 - 2018

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 02-10-2018
المدن - ثقافة


ازنافور... وترجّل “المغني الأكثر تنوعاً”


غنى حتى “الرمق الأخير”


مع رحيل الفنان شارل أزنافور “ازنافوريان”، الأرمني–التركي الأصل، فرنسي الهوية، والمقيم في سويسرا، تدفقت الألقاب الرثائية عليه من الشرق والغرب، فهو “أسطورة الفن الفرنسي” و"فرانك سيناترا الفرنسي"، و"عبد الوهاب الفرنسي"، و"آخر العمالقة".

قناة “سي إن إن” الأميركية ومجلة التايمز منحتا أزنافور، في العام 1988، لقب “المغني الأكثر تنوعاً في القرن العشرين”، إلى جانب ألفيس بريسلي وبوب ديلان. وقد غنى للرؤساء والملوك والشعوب في آن واحد. وغنى للأحداث المؤلمة التي مرت بها الإنسانية. ويصنفه النقاد بأنه الحنجرة الفرنسية التي تعبق بتاريخ الكلاسيكية الرومانسية المرهفة، إذ يأخذ جمهوره في كل حفلة من حفلاته إلى مطارح العشق الأخرى.

وأزنافور الذي رافق ليالينا الهادئة في حانات بيروت الى جانب نجوم الأغنية الفرنسية مثل اديث بياف وجاك بريل ولا فابيان، غنى حتى “الرمق الأخير”، وتوفي عن 94 عاماً. كان حتى أشهر قليلة من رحيله يستعد لجولة فنية، لكن وعكة صحية أوقفته. أزنافور الذي عاش في سويسرا على ضفاف بحيرة “ليمان” الشهيرة، كان يؤكد أن المكان المحيط فيه ينعش لديه رغبة الحياة. لكن عيشه في سويسرا لم يخفف أبدا إعجابه بفرنسا “البلد الرائع”، كما يصفها. وهي البلد التي وُلد في عاصمتها في العام 1924 عندما كان والداه ينتظران تأشيرة الخروج فيزا- للذهاب إلى الولايات المتحدة الأميركية. “نتاج” هجرة من أب أرمني وأم تركية، معتز بأصوله الأرمينية، إذ لكالما قال إن “أرمينيا وشعبها في قلبه ودمه”.

بدأ شارل ازنافور العمل في الفن وهو في التاسعة من عمره، ولما بلغ العاشرة والنصف ترك المدرسة “لان المدرسة كانت مدفوعة بعد شهادة السرتيفيكا”، و"لم يكن اهلي يملكون الامكانيات لارسالي الى مدرسة او معهد خاص. وكان عليّ أن أحصل كل الدروس، ومن الصعب أن يتعلم المرء لوحده ما لم يعلمه اياه المعلمون". يضيف ازنافور: “لقد حدث لي وفكّرت غالباً أن حبّي للكتابة له علاقة بأصولي وبالمآسي التي عاشها الأرمن”، و"لقد جئت من أسرة متواضعة. هكذا فضلت أن أجعل من التواضع طريقة للعيش". لكنه يؤكد بنفس الوقت أنه لم ير أبدا في فقره سببا للشقاء. بل أعتبر أن من “واجبه” أن يشق طريقه وأن ينجح: “لا أعتقد أن الفقر حجّة مقبولة كي لا يتعلّم الإنسان”، كما نقرأ.

ولا يتردد ازنافور في القول أن “الإبداع” في الفن كان السبيل الذي جعله “يولد من جديد” و"ينبعث من رماده". في كتابه “من باب إلى آخر”، يقول ازنافور إنه “من الظلام إلى النور لم تكن هناك سوى خطوة. تلك الخطوة تلخص قصة حياتي كلها”، “لقد عشت الحياة من عتبة إلى أخرى تاركا كهوف الجهل نحو شعاع المعرفة”. هكذا عاش ازنافور طوال حياته، كما يقول، في حالة “انتقال” من “وضع” إلى “آخر”، لكن دون الإحساس أبدا أنه حصل على كل ما يريده.

بدأ ازنافور مساره الفني بلعب أدوار صغيرة كـ"كومبارس". وفي عام 1941 تعرّف صدفة على اديت بياف، التي سمعته يغني، ورتبت لتأخذه معها في جولاتها الغنائية في فرنسا والولايات المتحدة. أمضى سنوات في أميركا، وعاد إلى فرنسا حيث اشتهر في العالم الباريسي كـ"مؤلف أغاني" ثم كـ"مطرب". انطلق بعد ذلك في عالم الغناء، كمؤلف ومطرب، وكذلك في عالم السينما. واهتم بالرسم والكتابة. ويحكي ازنافور في ذكرياته كيف أصرّ على تلقّي دروس في الغناء وقام بعملية تجميل بناء على نصيحة، بل أمر، اديت بياف، لـ"تصغير حجم أنفه".

بياف طبعت حياة ازنافور، فكان يعتبرها “صديقة، ملهمة، ونموذجاً ايضاً”. “كانت واحدة من ثلاثي هو مثال لي في حياتي وهم: شارل ترينيت، موريس شوفالييه، واديث بياف. انهم الاشخاص الذين كانوا الاكثر تأثيراً في حياتي. وبعدها أنا اثرت بالآخرين”. ويبدو حضور بياف في حياة ازنافور في اكثر من اتجاه، “لولا بياف لما اتخذ مشواري إتجاهه الحالي. وأنا اعترفت في أكثر من مرة بعدم نيتي أساساً في خوض تجربة الغناء، وإديث بياف هي التي نصحتني بالتوقف عن اعطاء ألحاني وكلماتي لغيري وترديدها بنفسي، لأني الوحيد القادر على إبراز معانيها بالطريقة التي أردتها عند الكتابة في أول الأمر... فكرت بجدية في كلام بياف، واقتنعت بضرورة ترديد أغنياتي بنفسي، ورغماً عن اتخاذي هذا القرار بقيت اشعر بشيء من الخجل وقلة الثقة في إمكاناتي الصوتية، فشكلت ثنائياً مع مغن اسمه بيار روش، واستطعت بهذه الطريقة مواجهة الجمهور بشجاعة وترديد أغنياتي بلا خجل”.

ويعترف أزنافور أنه كان قد أعلن في بداية عقد الخمسينات من القرن الماضي لـ"ناشره الموسيقي" أنه يريد التوقّف عن التأليف والغناء إذ “لا يملك صوتا جميلا ولا ملامح جسدية جذابة ولا حظّا قد يساعده في التقدم”. أصرّ الناشر راوول بروتون على ضرورة استمراره في كتابة الأغاني، حيث أخذ شارل ازنافور يكتب للآخرين من أمثال بياف وغريغو وبيكو وغيرهم.

في عام 1955، كانت أولى إطلالته التلفزيونية، إذ غنّى Le Palais de nos chimieres. وفي الولايات المتحدة، وتحديداً عام 1963، خطى خطوات النجاح والمجد، عندما جذب الأميركيين الذين تداعوا وقتها لحضور حفلاته للاستمتاع بأغانيه الفرنسية والإنكليزية، ليحجز بعد ذلك مساحة في الخريطة العالمية. وخلال سنوات قليلة أصبحت فرنسا كلها “عاشقة لازنافور”.

ولم يكتف أزنافور بكتابة وتلحين الأغاني التي يبدعها بحنجرته، بل كتب ولحن للكثير من المطربين الفرنسيين والعالميين، على غرار إديث بياف، جوني هاليدي، إيدي ميتشل، ووقّع أكثر من 1200 أغنية. وقدم أكثر من 100 ألبوم بست لغات عالمية هي: الفرنسية والروسية والإنكليزية والأرمينية والإيطالية والأسبانية، مما جعله المغني الفرنسي الأكثر شهرة حول العالم. وباع أكثر من مائة مليون أسطوانة. حصلت أغنيته “هي/She” على المرتبة الأولى لأعلى مبيعات في المملكة المتحدة في السبعينيات. وقد خصص مجمل أغنياته للحب والجمال، كما ألّف مسرحيات موسيقية، ومثّل في أفلام الستينيات. وعلاوة على مسيرته الناجحة في الغناء، كان أزنافور ممثلا ناجحاً، ولعب دور البطوله في فيلم “اطلق الرصاص على عازف البيانو” لفرانسوا تروفو (عام 1960). كما لعب أزنافور دورا في فيلم “الطبل الصفيح” للمخرج الألماني فولكر شلوندروف، الذي لعب فيه دور بائع ألعاب يهودي طيب.

اللاجئ

أما عن حياة أزنافور الشخصية، فإن عائلته تعتبر يسارية تعاونت مع المقاومة ضد النازيين، ولأنه وأهله قد كابدوا آلام التهجير واللجوء، فقد كان لأزنافور موقف متقدم من هذه القضية الإنسانية، فقد صرح أنه على استعداد لاستقبال مهاجرين في منزله، قائلاً “علينا ألا ننسى ما قدمه المهاجرون لهذا البلد من أمثال بيكاسو وبييار وكلوران وآخرين كثر”. وكان أزنافور قد عبر عن تأثره العميق بما يجري الآن وبأحوال اللاجئين المزرية، وقال “أتخيل ما حدث لوالديّ عندما غادرا أرمينيا متوجهين إلى فرنسا”. وأضاف “إنني أقف مع أولئك الذين يطرقون الأبواب وليس مع أولئك الذين يغلقونها”...

العرب

يذكر ازنافور أنه بعدما سمع أم كلثوم تغني في القاهرة، رشحها لتغني على مسرح الأولمبيا في باريس، وتحقق ذلك، في ليلة الأربعاء 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1967. وهو الذي وقف وراء دعوة الفنانة اللبنانية فيروز، فيما بعد لتغني على المسرح ذاته، وكان يتمنى ان يقدم ديو معها، وربما يجهل البعض أن صاحب رائعة “البوهيمية”، كتب ولحّن للشّاب مامي، أغنية جميلة، حملت عنوان “تعال يا حبيبي!”. وكان يبدي إعجابه بغناء عبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، والتقى بعبدالوهاب مرات متعددة لدى تكريمه في باريس في ثمانينيات القرن الماضي ومنحه الاسطوانة البلاتينية، وحرص على اقتناء تسجيلاته القديمة، إذ كان من هواة دراسة تطور موسيقى الشعوب وتجارب دمج الثقافات. وقد سبق لازنافور أن زار لبنان أكثر من عشر مرات منذ خمسينيات القرن الماضي وأحيا فيه عددا من المهرجانات والحفلات الفنية وعبر عن إعجابه بمناخ هذا البلد وطعامه. وسائل اعلام الممانعة حاربته بتهمة تأييده لإسرائيل في مناسبات متعددة، اذ قُلّد العام الماضي ميدالية “راوول والينبرغ” بسبب “مساعي عائلته الحثيثة لإنقاذ وحماية مجموعة من اليهود الهاربين من الإبادة النازيّة خلال الحرب العالمية الثانية”.

مع رحيله كتب الرئيس ايمانويل ماكرون في “تويتر”: “لقد شارك شارل أزنافور الفرحة والأحزان لأجيال ثلاثة، واستمع إليه العالم بأسره كفرنسي أصيل، حافظ على أصوله الأرمنية في أعماق حدسه الداخلي. وسوف تظل أغانيه العظيمة، ونسيج صوته المتميز وتأثيره الطاغي على الثقافة البشرية ماثلا أمامنا لزمن طويل”. وأضاف الرئيس الفرنسي أنه كان قد دعا أزنافور للمشاركة في قمة الشعوب الفرانكوفونية في العاصمة الأرمنية، يريفان، المزمع عقدها، في 11-12 أكتوبر.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عن الصورة

شارل أزنافور

Charles Aznavour

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)