رجال في الشمس، غسان كنقاني (فلسطين)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة الدستور الأردنية


الجمعه 28 أكتوبر / تشرين الأول 2016
جريدة الدستور الأردنية
هداية الرزوق - أديبة من الأردن


صورة اللاجئ من خلال الأبعاد الرّمزيّة في رواية «رجال في الشّمس»


يبرهن غسّان كنفاني في روايته «رجال في الشّمس» أنّ الإبداع سجل حافل بالرؤى والأيدولوجيّات المتباينة، والتي يستطيع الأديب أن يبرز تفاصيلها من خلال نتاجه النّوعيّ فيتلقاها الفرد مؤيّداً أو معارضاً، وقد سعى كنفاني لإبراز ملامح فكره الخاصّ من خلال النّماذج السّيكولجيّة المتناقضة التي تنقلنا بأفعالها، لتذكّرنا بالكثير من الإشكاليّات المطابقة لتداعيات حياتنا السّياسيّة المعاصرة.

ولعلّ « رجال في الشّمس» وثيقة اجتماعيّة تحفى بالعديد من المتناقضات الذّهنيّة والثّنائيّات الشّعوريّة؛ ذلك أنّ العنوان بحدّ ذاته يُحيل إلى رمزيّة مُتناقضة؛ فكلمة (رجال) تُطالعنا لتجعلنا نتخيل أبطالاً يمثّلون عنفوان الرّجولة وجوهرها، في حين تخذلنا أفعالهم، لا بل نرتطم بمدى انهزاميتهم وتبعثرهم وشتاتهم، أمّا كلمة (الشّمس) والتي تغمرنا بنورها وإشراقها، وتبعث فينا بصيص الحياة بمجرّد نطق اسمها، فإنها تغدو في الرواية أداةً قاتلة ومصدراً مُثيراً لبواعث القلق والإدانة.

أمّا هؤلاء الرّجال الذين يقضون داخل صهريج جافّ تحت وطأة الشّمس الحارقة ، هُم أبطال هذه الرّواية التّراجيديّون، تدفعهم سيكولوجيّاتهم المُتناقضة إلى ممارسة الموت بامتياز؛ مبررين ذلك بإدانتهم للواقع المعيش، والتّشتيت والإذلال، والنّتيجة أن تنتهي جثثهم في الكويت التي كان الوصول إليها أشبه بالوصول الى (الفِردَوس المُنتظر).

صوّر كنفاني معاناة الفلسطينيين الذين سلبتهم النكبة حق الحياة الكريمة، ممثلة في قصة ثلاثة فلسطينيين يمثّلون أجيالًا عمرية مختلفة، تنكّرت لهم الدنيا والناس، فسعوا وراء أملٍ بعيد، أو حلمٍ بسيط، دفعوا مقابله حياتَهم.

إنّ هذه الرّواية إطار رمزيّ لعلاقات متعددة تتمحور حول الموت الفلسطيني، وحول ضرورة الخروج منه باتجاه اكتشاف الفعل التاريخي، أو البحث عن هذا الفعل، يُدين فيه حالات الخلاص الفردي غير الملتحمة بالجماهير؛ لأن مصيرها الفشل الذريع، والموت في صحراء لا حياة فيها، بعد أن تقطعت بهم الأسباب والسبل كنتيجة واضحة للاحتلال، ولمن قرروا أن يهربوا إلى بلاد أخرى غير بلادهم جريًا وراء السراب.

أبطال القصة هم: أبو قيس؛ وأسعد؛ ومروان؛ وأبو الخيزران. لكل منهم مشكلة خاصة به، إضافة إلى مشكلة الوطن. فأبو قيس أصبح بعيدًا عن زوجنه وأطفاله. وأسعد يضع احتماله أنه قد لا يصل إلى الكويت، وكذلك مروان، فقد قررا ألّا يدفعا اجرة تهريبهم إلا بعد وصولهم إلى هدفهم.

كانت حياتهم شبه مستحيلة في مخيمات اللجوء، فاضطروا إلى مغادرة المخيم بحثًا عن لقمة العيش وعن السعادة في بلد آخر. التقى الثلاثة في البصرة للسفر إلى الكويت عن طريق التهريب، وفي البصرة تعرّفوا على فلسطيني يدعى «أبو الخيزران»، وهو سائق شاحنة لنقل المياه العذبة في الكويت. اتفقوا معه على تهريبهم مقابل بضعة دنانير لكل منهم، وفعلاً صعدوا إلى جوار السائق في بداية الطريق، وعندما وصلوا حاجز الحدود العراقية انتقلوا إلى داخل الخزان الفارغ من الماء، إلى أن أتمّ السائق ختم أوراقه، ثمّ عادوا للجلوس بجواره ليتابعوا رحلتهم إلى المجهول.

وعندما وصلوا إلى الحدود الكويتية نزلوا إلى داخل الخزان، مرة أخرى، حيث الظلام والحرارة اللافحة، ولكنّ الأمر استغرق وقتًا طويلًا جاوز السبع دقائق المعتادة لختم الأوراق، إذ أخذ الجنود الكويتيون يمزحون مع السائق، واستغرق الأمر قرابة عشرين دقيقة، كانت كافية لتحولهم إلى جثث هامدة، ليرميهم بعد ذلك بالقرب من مقلب قمامة في عُرض الصحراء، بعد أن سلبهم ما معهم، وردد صرخته المشهورة «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟!»

هذا السؤال الذي اختتمت به القصة يستدعي أجوبة لم يقدّمها النص، وهي خاتمة جديدة للرواية. والقصة تمثّل رمزية واقعية، لا تخلو من رومانسية يعرض بها الكاتب صرخة شعبه التي تحمل تاريخًا قبل الانطلاقة الفلسطينية، فالحيثية وجدلية التواصل تقوداننا إلى الوقوف على حقيقةِ تقدميةِ المنهج الواقعي وثوريّته، الذي ينتهجه الكاتب (المنهج الواقعي) .

تمحورت الرواية حول فكرتين هما: العاطفة بأبعادها: النفسية والاجتماعية والنضالية، من جانب، وعنوان الهوية والكيان من جانب آخر. وقد نجح كنفاني في توظيف هذين العنصرين توظيفًا عميقًا يتسم بالروح الإنسانية الشفافة، وفي قوالب رومانسية لا تفقد حسّها الواقعي.

لقد ظلت الرومانسية مصاحبة لتيارات الأدب الفلسطيني واتجاهاته المستحدثة في قصة «رجال في الشمس» رغم طغيان بعض التيارات الأخرى، فقد أخذت الرومانسية في الظهور، لا سيما في الجزء الأول من القصة، بفعل المسببات الحقيقية لها في القضية الفلسطينية، نتيجة للأوضاع الصعبة السائدة بعد النكبة، ولما يتعرض له الإنسان اللاجىء في الشتات، مما دفع كنفاني للتعبير عن محاولة تخليص أبطاله، بسبر أغوارهم، وكشف الستار عما يعتمل في داخلهم من آلام، وعرضها بشكل مباشر بغية رسم حياة لمستقبل أفضل، حيث الأمن والاستقرار… والتأكيد على حق الإنسان الفلسطيني في أن يحلم بأرضه والعودة إليها.

ثمة إيحاءات أو دلالات رمزية للقصة، لكنها لا تجنح إلى الإغراق في الصور الرمزية، إذ يمكن تسميتها «الرمزية الواقعية»، إذ إنّ أبطال القصة الثلاثة (أبو قيس وأسعد ومروان) يرمزون إلى الشعب الفلسطيني كله، وأبو الخيزران يرمز إلى القيادة الفاشلة المهزومة، والمهرب البصراوي يرمز إلى الاستغلال الإنساني بأبشع صوره، وموظفو الجمارك يرمزون إلى المسؤول العربي والبيروقراطية الفاسدة، والصحراء ترمز إلى المساحة الفاصلة بين الحياة والموت، والخزان يرمز إلى الحصار والسجن والقبر والموت، والموت يرمز إلى الهروب إلى حياة جديدة.

لجأ كنفاني إلى جعل الصّورة مكثّفة لتكون دالة على رحلة العذاب كما تتجسد في الصحراء والخزان. إنّ هذين الرمزين معًا وفي تفاعلهما يخلقان صورة فنية على درجة كبيرة من الفعالية… كذلك أسهم في إنجاح هذه الصورة كصورة فلسطينية، وأنّ كل الشخصيات الذي تمور فيه الرواية بحياتهم والمميزة فهي أيضًا تمثل وترمز إلى شرائح كاملة من الشعب الفلسطيني.

وتتكثّف الصورة في شخصية أبي الخيزران، مثلاً، فهو مجاهد قديم فقد رجولته ووطنه فأصبح ضحية، ولكنّه تحوّل إلى جرذ كبير يبحث عن ضحاياه، فهو إن لم يأكل قُضيَ عليه، لذلك هو قائد رحلة الهلاك، إنّه قيادة لا تفي بوعودها ومسؤولياتها، إنّه جانٍ ومجنيٌّ عليه، نشفق عليه بقدر ما ندينه ونرفضه.

وفي إشارة أخيرة إلى السارد في «رجال في الشمس»، فإنّه يبدو ساردًا عارفًا بكل شيء. إنه السارد العليم الحاضر مع شخوصه أينما حلّوا وارتحلوا، وهكذا نجده في الرواية يعرف عن حاضر أبي قيس وماضيه، وعن شكله وعما يجري في داخله، وقل الشيء نفسه عن معرفته عن بقية شخوص الرواية ومنهم أسعد ومروان وأبو الخيزران. ولا تبدو المَواطن التي يظهر فيها الراوي راويًا غير ملمٍّ بكل شيء كثيرة. إنها مواطَن نادرة جدًّا.

الأبعاد الرّمزيّة (الخزان، الصّحراء، الموت)

أوّلاً الخزّان:

وظّف كنفاني خزّان الماء بصورة تشي بمُفارقة واضحة، فالماء يُمثّل عنصر الحياة الأساسيّ لكنّه عمد في هذه الرواية إلى أن يجعل الخزّان فارغاً من الماء، وكأنّه يقصد فارغاً من الحياة، وقد بيّن في روايته أنّ الخزّان لم يحمل الماء منذ مدّة طويلة.

وهو حين جعل الخزّان يُستخدم في غير غايته الأصلية، أي حين لا يحمل الماء، فهو يحمل الموت، ولم يجعل الكاتب (أبو الخيزران) مخادعاْ في هذا الشأن، إذ إنّه أخبر الرجال الثلاثة بحقيقة ما ينتظرهم داخل الخزّان، وإن حاول التخفيف منه قليلاً حين بشّرهم بإمكانيّة التّغلُّب عليه «أنصحكم أن تنزعوا قمصانكم .. الحرّ خانق ومخيف هنا، وسوف تعرقون كأنّكم في المقلى، ولكن لخمس دقائق أو سبع، وسوف أقود بأقصى ما أستطيع من السرعة».

كان الخزّان إذاً رمزاً للحصار والسجن الذي يتّجه نحوه الشعب الفلسطينيّ بقياداته العربية الفاسدة، التي رمز لها الكاتب في الرواية بشخصيّة السائق الذي يقود الخزّان نحو الموت (أبو الخيزران). فالخزّان صورة الجحيم وذروة المأساة التي يعيشها الفلسـطينيّون وهو السجن الكبير الذي عليهم أن يُحطّموا جدرانه إذا أرادوا البقاء.

أمّا الوُلوج داخل الخزّان فينطوي على دلالة عميقة، جعل الكاتب منها سـبباً لإدانة أبطاله وإن كان سبباً أيضاً في تقليل عنصر المفاجأة لدى المُتلقّي. ففي الرواية وُلوجان داخل الخزّان، وفي الـوُلوج الأول يبدأ الفـعل التراجيديّ الذي يُـمـهّد للـنهاية التراجيـديّة للأبـطال، فعلى الرغم من أنّ الرجال قد خرجوا منه أوّل مرّة بوجوه تشبه «وجوهاً صفراء مُحنّطة» ومع أنّهم أدركوا أنّ طريقهم محفوف بالموت، ورغم كلّ ما وُجّه إليهم من تحذيرات من خطورة ما يُقبلون عليه، فلم يتوانوا عن النزول إلى الخزّان ثانية ومجابهة مصيرهم بإذعان.

لم تبدُ لحظة موت الأبطال الثلاثة مُفاجئةً في هذه الرواية، وذلك لما سبقها من تجربة الموت الأولى غير المكتملة في الوُلوج الأول، فضلاً عن الكثير من عناصر الاستشراف التي وضعها الكاتب على ألسنة جميع الشخصيات لتُعبّر عن خوفها من مصيرها المجهول المحتوم، ومن ذلك قول أبي قيس: « إنّها مٌغامرة غير مأمونة العواقب» وقوله:» وهل تضمن أنّنا سنصل سالمين؟ «.

ويلوح في هذا السياق السؤال الآتي: لماذا لم يترك المؤلف أبطاله الثلاثة يموتون في وُلوجهم الأوّل داخل الخزّان؟ لعله قد عمد في بنائه الفنيّ هذا إلى أن يُعّمق البُعد التراجيديّ في الرواية. «فالبطل المأساويّ هو من يختار… ويتحدّد مصيره كنتيجة حتميّة لهذا الاختيار، فمأساة البطل العربيّ الحديث التراجيديّة هي مأساة اختياره؛ لأنّه لا يملك زمام أمره» .

لقد قصد الكاتب إدانة الشخصيّات لاستسلامها التّامّ لهذا الموت ، فهو لم يُرد أن يتركهم يموتون في خزّان يجهلونه كمن يسقط ليلاً في حُفرة لا يعرف عنها شيئاً، بل قصد أن يجعلهم يموتون عن سبق إصرار . لقد قصد ألا يستدرّ شفقتنا تجاه هؤلاء الرجال، ولم يُرد أن يُحدِث فينا أثراً انفعالياً كبيراً إزاءهم، بل أراد منّا أن نستنكر حُمقهم واستسلامهم السلبيّ ، فهو بهذا أراد أن يخاطب عقولنا ؛ ليحملنا على إدانة هؤلاء الّرجال، وهناك رمز هامّ هو أنّ الرجال الثلاثة هم المكافئ الروائي للشعب الفلسطينيّ الميّت بلا قبر، أو الميّت حسب الرواية في قبر الخزّان.

ثانياً: الطّريق (الصّحراء):

لقد وصلت شخصيّات الرجال الثلاثة في رواية « رجال في الشمس» حدّاً كبيراً من اليأس، لم يعـودوا معـه قـادرين على النّـضال من أجـل أيّ أمل يـلوح في الأُفُـق، بل ظلوّا أسـيري الـماضي -الذي يرون فيه السعادة والإشراق الذي ولّى إلى غير رجعة- فلم يعودوا يملكون القدرة على تغيير الحاضر المُظلم، فلجأ كلٌّ منهم إلى الخلاص الفرديّ، الذي يتمثّل في الفردوس الذي سعوا إليه في رحلتهم إلى الكويت.

لكنّ هؤلاء الرجال -للأسف- ولشدّة ما سيطر عليهم اليأس لم يتمكّنوا من اختيار الطريق الصحيح، فاختاروا طريق الهرب، كما أنّهم عجزوا عن اختيار القائد المُناسب ليقودهم في رحلتهم، فاختاروا رجلاً عاجزاً، فهذا الرجل الِعنّين غير مكتمل الرجولة هل يمكنه أن يوصلهم إلى غايتهم بسلام ؟

وقد قدًم الكاتب نماذج استشرافيّة للمصير الذي قد تقود إليه طريق الصحراء، ومن ذلك ما قاله أسعد أكثر من مرّة: « الطريق .. أتوجد بعدُ طُرق في هذه الدنيا لم يمسحها بجبينه ويغسلها بعرقه طوال أيام وأيام» وقد كان أسعد يتوجّس خيفةً من عدم الوصول إلى الكويت، لذلك نجده يُصرّ على ألا يدفع للرجل السمين أو المُهّرب البصَريّ إلا بعد الوصول، ورُبّما كان هذا من قبيل الوعي الذي تَشَكّل عنده بسبب رحلته من عمّان إلى البصرة، حيث أثبت له أبو العبد أنّه لصّ، ممّا جعله يتوقّع ألا يكون المهُرّب أفضل منه.

ولعلً ما جَعَل صورة الصحراء وما تحمله من خوف من المجهول ومُعاناةٍ إنسانيّة مع الحَرّ الشديد تصبح أقرب إلينا كُمتلقّين، هو دقّة وصف الرّاوي للصحّراء في رحلة أسعد الأولى «كـانـت الشّـمس تصـبُّ لهـباً فـوق رأسه .. اجـتاز بـقاعـاً صلبة مـن صـخـور بـنّـية مـثل الشـظايا، ثم صعد كثباناً واطئة… تراهم لو حملوني إلى مُعتَقَل الجَفْر الصّحراوي هل سيكون الأمر أرحم ممّا هو الآن؟ عبث. الصحراء موجودة في كلّ مكان.».

ومّما يُثير الرُّعب الذي يكْمُن في نفس أسعد تجاه الصحراء أنها مليئة بالجرذان «أوف، إنّ هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟… جرذاناً أصغر منها» فكأنَّ المؤلف قصد أن يرمز بهذه الجرذان – التي يقتات الكبير منها على الصغير – إلى البَشَر الذين يقتات الكبير منهم على الصغير « لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر « وكأنّه يقول لأسعد: انتبه أيّها الجرذ الصغير، فسوف تقتات عليك الجرذان الكبيرة، ولا بّد أنّه قصد بهؤلاء (أبو العبد) والرّجل البصريّ السمين، وأبو الخيزران وأمثالهم.

ومع ذلك فإنّ أسعد أصرّ أن يستسلم لهذا المصير ، فحتّى الفُندق الذي كان من المُفترَض أن يكون مكاناً للراحة والهدوء كان مليئاً بالجرذان، ولم يكن الذنب ذنب أبي الخيزران، لأنّه لم يُخف ِعن الرجال وحشيّة الصحراء، إذ قال:» هذه الكيلومترات المئة والخمسين أُشبّهها بيني وبين نفسي بالصّراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار، فمن سقط عن الصّراط ذهب إلى النّار، ومن اجتازه وصل إلى الجنّة « ثم ينفجر أبو الخيزران ضاحكاً، كما لو كانت ضحكته سخريّة شيطان بهولاء الحَمقى المُغفّلين.

وفي الحديث بين أسعد وأبي الخيزران أثناء الرّحلة يعزّز هذا الأخير فكرة أنّ الجرذان الكبيرة تقتات على الصّغيرة حين يروي له حكايات المهُرّبين الذين يتخلّون دائماً عمن يريد الوصول إلى الكويت، فيضيع ويضطر إلى شراء رشفة الماء من بدو الصّحراء بكلّ ما معه من مال ٍ وأشياء ثمينة. إنّ أبا الخيزران قد أجاد في صفحة أو اثنتين في إجهار وحشيّة الصحراء وما تختزنه من رُعب، وبذلك يكون كنفاني قد عاد لتأكيد الطبيعة الافتراسيّة للصحراء، وهو ما عاينه أسعد بنفسه في رحلته الأولى. وهنا تغدو الصّحراء نفسها جرذاً كبيراً يقتات على الجرذان الصغيرة. إذن فالواقع الخارجي – الذي تمثّله الصحراء – افتراسي.

إذن فالصحراء تغدو المساحة َ الفاصلة بين الحياة والموت، وهي رمز للفراغ السياسيّ والمشوار الذي لا ينتهي من العذاب دون إمكانيّة الوصول إلى الهدف المنشود. فالصحراء تمثل مأساة الإنسان الفلسطيني المُمتدّة في كلّ مكان على مدى شتاتهِ وتشرُّده

ثالثاً الموت:

أنهى الكاتب حياة شخصياته في هذه الرواية بالموت، إلا أنّه لم يتركهم يموتون في ساحة القتال، أو في حالة دفاع أحدهم عن نفسه أو عن أرضه أو عرضه، ولعلَّ المؤلف قد قصد أن يعُمّق مستوى إدانته لانهزاميّة أبطاله في هذه الرواية، إذ اختار لهم موتاً غير مُشرّف.

إنّ لحظة الموت في هذه الرواية لم تكُن منطقية، فالمنطق يفترض أن يقرع الرجال جُدران الخزّان حين شعروا بالاختناق، ولتكن النتيجة هي الموت بعد ذلك، مع أنّ فعل دقّ الخزّان قد يؤدي الى النجاة أو الموت، فهم عندها يكونون قد تجاوزا حتميّة الموت إلى احتماليّة النجاة، وإذا ماتوا بعد ذلك فإنّهم عندئذٍ سيموتون كرجال حقيقيّين.

لكنَّ اللحظة التى تضعنا في مواجهة الفجيعة هي لحظة التخُّلص من جُثَث الموتى (الرجال الثلاثة)، فأبو الخيزران لم يُكلّف نفسه الحدّ الأدنى من الجـُهد لـمواراة جُثـث الرجال الثلاثة بل كان أنانيّاً كما هو منذ البداية، ولم يُفكّر سوى في تعبه وشعوره بالإرهاق «… أما الآن فإنّه يحسّ بالتعّب يتآكله فكأنّ ذراعيه قد حُقنتا بُمخدّر، لا طاقة له على العمل، ولن يكون بوسعه أن يحمل الرفش ساعات طويلة ليحفر ثلاثة قبور.

وبم َعسى هذا الرّجل أن يُفكّر! لقد اختار لرفاقه الثلاثة المصير الأسوأ، والأكثر ابتذالاً واستخفافاً بإنسانيّتهم، واختار أن يلقيهم فى مَكبّ النّفايات ولكُي يُرضي ضميره حاول أن يُقنع نفسه بأنَّ الحكومة سُتشرف على دفن الجُثث بنفسها حين تكتشفها في الصباح «… قال في نفسه: هنا تُكوّم البلدية القمامة، ثم فكّر: لو ألقيت الأجساد هنا لاكتُشفت في الصباح، ولدُفنت بإشراف الحكومة … رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمع صوتها الكثيف يتدحرج فوق حافّة الخزّان، ثم صوت ارتطامها المخنوق على الرمل، لقد لاقى صعوبة جمّة في فكّ يدي الجثّة الأخرى عن العارضة الحديديّة، ثم سحبها من رجليها إلى الفوهة وقذفها من فوق كتفيه .. مُستقيمة مُتشنّجة وسمع صوت ارتطامها بالأرض .. أمّا الجثة الثالثة فقد كانت أسهل من أختيها … «

إنّ الكاتب قد عمد في روايته هذه إلى أن يختمها بموت الأبطال موتاً مجّانياً في النهايـة وهو الموت الذي يستحقّونه برأيه، لأنّهم كانوا سلبيّين من البداية، واستسلموا للمصير المجهول الذي كانوا يشعرون بأنّه محفوف بالمخاطر، خصوصاً بعد أن جرّبوا النزول في الخزّان في المرة الأولى، وأراد أن يُفاقم إدانته لأبطاله حين جعل أبا الخيزران قائدهم في هذه الرحلة يُلقي جثثهم في مَكَبّ النفايات، وذلك كناية عن أنّهم قد أُلقوا في مزبلة التاريخ، وهو المكان الذي يستحقّونه، فالكاتب إذن اختار لشخصياته موتاً مَجّانياً وجباناً بدلاً من أن يختار لها موتاً مُشرّفاً، وفي ذلك يتّضح موقفه من مثل هذه الشخصيات التي اختارت الخلاص الفرديّ ، وأسلمت نفسها لقيادة غير مريبة ولمصير مجهول، فالفجائعيّ هنا يتحول إلى تراجيديّ لأنّ البطل يموت مُداناً، مع أنّه كان بوسعه أن يموت غير مُدان، ولذلك تغدو هذه الحادثة مُروّعة ًومُستهجنة.

لا يكتفي كنفاني بهذه النهاية المأساوية المُهينة لأبطاله، بل يحاول أن يجعل أبا الخيزران (قائدهم في رحلة الموت) يجرّدهم من إنسانيتهم تماماً، فهو لا يكتفي بأن يُلقي جُثثهم في مَكَبّ النّفايات، ويجعلها نهباً للجوارح والحيوانات المُفترسة الجائعة في الصحراء بل ضاعف النظرة الماديّة اللاإنسانية إلى تلك الشخصيات التراجيدية، حين عمد إلى سرقة مُقتنياتهم الثّمينة «ولكنّه ما لبث أن تنبّه إلى أمرٍ ما بعد أن قطع شوطاً، فأطفأ مُحرّك سيارته من جديد، وعاد يسير إلى حيث ترك الجُثَث، فأخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان وعاد أدراجه إلى السيارة ماشياً على حافتي حذائه».

عن موقع جريدة الدستور الأردنية


يمنع النقل أو الاقتباس من أخبار الدستور الخاصة الا بموافقة مسبقة من الصحيفة
اما فيما يتعلق بالمقالات فلا مانع من اعادة النشر شريطة الإشارة الى المصدر (جريدة الدستور)


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)