سينما

“حدوتة مصرية” ليوسف شاهين : السينما تصفي حسابات عدة

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١٧ مايو/ أيار ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


من ناحية مبدئية، بنى يوسف شاهين فيلمه «حدوتة مصرية» انطلاقاً من قصة، أو من فكرة كتبها يوسف إدريس، وسوف لن يعدم الأمر من يؤكد لاحقاً أن إدريس نفسه ربما يكون اقتبس الفكرة عن مسرحية روسية عنوانها «أغوار الروح» للكاتب نيكولا أفرينوف، كما كان هناك من نسبها حيناً إلى فيلم «الرحلة الغريبة» لريتشارد فليشر، وحيناً إلى فيلم «كل هذا الصخب» للكاتب والمخرج الأميركي هربرت روس، وكل هذا ممكن بالطبع، ولكن الأقرب إلى المنطق هو أن شاهين انطلق من كل ذلك، متنبهاً إلى أن في كل هذه الأسس ما يمكّنه من أن يروي قبساً من حياته، ويحاكم نفسه على طريقته، ذلك أن «حدوتة مصرية» هو أولاً وأخيراً فيلم عن حياة يوسف شاهين، يتابع تلك الحياة، يروي فصولها، يحاكمها من دون رحمة أو هوادة، جاعلاً من بطلها («يحيى» مرة أخرى ولكن تحت ملامح نور الشريف، في واحد من أفضل أدواره) أناه- الآخر وقرينه المطلق.

وإزاء هذا الواقع، هل يهم حقاً أن يكون شاهين جاء بفكرته من يوسف إدريس أو من غيره؟ المسألة في «حدوتة مصرية» ليست في منبع الفكرة، بل في السياق الذي بنى عليه شاهين فيلمه كجزء ثان من سيرته الذاتية، جاعلاً من الفيلم كله عبارة عن حوار صاخب بين الطفل الذي كانه شاهين والرجل الذي صاره. حوار كان محاكمة تعرية لشاهين نفسه، ويمكن أيضاً للواقع المصري كله. وكان إضافة إلى هذا فيلماً عن السينما: عن السينما كمكان آخر (أخير؟) للحرية، وعن الإبداع كوسيلة أخيرة للبقاء. لقد قال شاهين وكرر مراراً، إن نقطة انطلاق رغبته في تحقيق هذا الفيلم كانت حين اكتشف قبل سنوات أن «علي أن أخضع لعملية جراحية في القلب. ولقد صدمني هذا الأمر بصدق، إذ أحسست أن الموت يواجهني، وهكذا وجدتني أجابه كل ما يمكنني أن أجابهه من أسئلة: ما الذي فعلته في حياتي حتى الآن؟ كان هو السؤال المحوري. وشعرت أن سينمائياً لا يمكنه أن يترك هذا العالم من دون أن يترك أمارة وراءه تدل على عبوره هذا الكون، مثل خوفو الذي ترك الأهرام، وجارنا الذي خلف أطفاله. والمثل العربي يقول: اللي خلّف ما متش...».

ترى من منا لم يفكر وهو طفل في أن يكتب رسالة لنفسه يقرأها بعد عشرات السنين، ليقارن عند ذلك بين ما كانه وما كان يتمنى أن يكون؟ ليسأل نفسه عن أحلامه وتطلعاته ونجاحاته وخيباته؟ حسناً، إن فيلم «حدوتة مصرية» هو أشبه شيء بهذه الحكاية، بهذه الرسالة، ولنتتبع لإدراك هذا خطوط هذا الفيلم: فهو في البداية يصور لنا السينمائي يحيى وقد بات الآن في مقتبل العمر، ويصور المشهد الأخير لفيلم «العصفور».. ولكن يحدث له خلال التصوير أن يقع أرضاً فريسة إجهاد سبّب له ذبحة قلبية، وإذ يكتشف الأطباء سوءاً في وضع شرايينه وتخثراً في دمه يقررون أن عليه أن يذهب إلى لندن كي تجرى له عملية جراحية هناك. وعشية العملية، تبدأ رحلة يحيى مع ذكرياته، من خلال ذلك الطفل الصغير (الشبيه بالأمير الصغير في رواية أنطوان دي سانت إكزوبري)، في لعبة تراجع زمني مكوكي في ارتباطه بالحاضر، يأخذه فيها الطفل الذي لا يفتأ يُفهمه بأنه، إذ كبر وخاض الحياة العملية، إنما خان مبادئ صباه وأحلامه المثالية. وإذ يبدو الطفل محاكماً لشاهين، يطلب هذا أن تستدعى للشهادة في حقه كل النساء اللواتي أحطن بحياته: أمه وأخته وزوجته وابنته.. ومن خلال هذه الشهادات ومن خلال رد شاهين عليها، تقوم المحاكمة الأساسية التي لا تطاول هذه المرة يحيى وحده، بل العائلة والجيل والمجتمع، وصولا الى «المدرسة والثورة والسلطة والتقاليد، مروراً بعالم السينما، في داخله وخارجه، والمنظمات السياسية، والمثقفين». وإذ يحاكم يحيى هؤلاء جميعاً في مجرى رده على الطفل، يحاكم نفسه، ولكن هنا في لعبة تعرية كاملة تنضح بالسخرية، ذلك أن يحيى إذ يجابه فصول المحاكمة، يسرد أمامنا وقائع حياة أناه- الآخر، أي يوسف شاهين- في شكل يذكرنا حقاً بمارتشيلو ماستروياني/ فدريكو فلليني في فيلم «ثمانية ونصف»، إذ لأن حياة يوسف شاهين هي حياة سينماه، ولأن الرجل لم يعش حياته إلا لكي يكون في قلب السينما وفي قلب الأفلام، تمر كل تلك المحاكمات والإدانات التي ذكرناها، من خلال سيرة شاهين/ يحيى السينمائية.

وهكذا، نرى في «حدوتة مصرية» كيف أن يحيى يسعى منذ العام 1954 إلى تقديم فيلم «ابن النيل» في مهرجان «كان»، وهو -عند ذاك- إذ يكون متوقعاً لفيلمه الفوز الكبير وأن يكون حديث الناس، لا يكاد فيلمه يحظى بأكثر من بضعة سطور في صحف ثانوية الأهمية. وبعد ذلك ننتقل معه إلى «باب الحديد» الذي يتطلع من خلاله إلى «العالمية» مرة أخرى، فيعرضه في برلين، من دون أن يلفت نظر كثيرين. وبعده يجرب حظه مع القضية الوطنية ويحقق فيلم «جميلة الجزائرية» عن نضال الشعب الجزائري، وهذه المرة يقترب، حقاً، خطوة ما من هدفه: يعرض فيلمه هذا في دورة العام 1959 لمهرجان موسكو، وينال تقديراً سيكتشف السينمائي بعد سنوات طويلة أنه كان تقديراً لموقف الفيلم السياسي لا لقيمته الفنية.. وتمضي السنوات، ليكتشف يحيى أنه بات يعيش بعض الشيء خارج الزمن، حين يرى أن ابنته (وهو في الحقيقة ليس لديه ابنة، بل ابنة أخت بمثابة ابنة له) تناضل سياسياً وتتعرض لمشاكل مع قوات الأمن، ثم يتعرض هو نفسه لمشاكل رقابية حين ينجز فيلم «العصفور». وهنا تبدو هذه المشاكل وكأنها واقعة لصالح يحيى، إذ تأتي عناصر خارجية لتبرر له، خروجه عن الخطوط التي كان رسمها لحياته صغيراً، ويبدو الآن مبتعداً عنها. ومع هذا، تحكم المحكمة الداخلية على يحيى في نهاية الأمر بأنه «مركزي النزعة»، أي «أناني».. ثم يتم إخراج الطفل من داخله ويبدأ بالتماثل إلى الشفاء.

ومن الواضح هنا أن شاهين، عبر هذه النهاية الملتبسة، والتي قد تحمل من السخرية من الذات ما يفوق كل ما حمله الفيلم من جلد للذات، إنما أوصل الهذيان إلى غايته، علماً بأن الفيلم كله يقوم على الهذيان، على رغم العديد من مشاهده الواقعية بل «الهيبر واقعية» والمستقاة من حياة الفنان نفسها.

فهذا الفيلم يقول لنا مرة أخرى إن سينما شاهين بعد كل شيء، تبدو لنا سينما أكثر ذكاء و «ملعنة» من أن نحدها في إطار معين أو أسلوب معين. وفي هذا الإطار، قد لا يكون التماهي بين الطفل يحيى وبين الثورة المصرية -وعلى الأقل كما رسمتها طموحات جمال عبد الناصر- بعيداً من الصواب. هل نعني بهذا أن يوسف شاهين كان يمضي هنا في لعبة تصفية الحساب مع الثورة؟ على الإطلاق.. وعلى العكس، كان يقدم لنا على الأرجح، نقداً ذاتياً -وجماعياً بالتالي- إزاء ذلك الطفل الذي جاءنا ليدلنا على خياناتنا وأحلامنا، وكان لا بد من تصفيته، لأن الاعتراف بأنه كان على حق وبأننا كنا على خطأ ليس من شأنه أن يغير من الأمور شيئاً. ولكن لأن شاهين سينمائي وليس عالم اجتماع، اختار أن يقول هذا كله عبر ألعاب سينمائية حاذقة يختلط فيها الواقع بالفانتازيا، والتلعثم بالتبصر، واللغة الفنية بلغة الحلم. ومن هنا، من دون أن يكون في الإمكان اعتبار «حدوتة مصرية» واحداً من أكبر أفلام شاهين، يمكن النظر إليه على أنه واحد من أصدقها، إضافة إلى ما فيه من تجديد «لغوي» سوف يطالعنا لاحقاً في العديد من أفلامه التالية.

غير أن الأساس ليس هنا: الأساس هو أن شاهين في هذا الفيلم الذي «جرؤ» فيه على أن يقول جزءاً من سيرته الذاتية، أخفى أشياء كثيرة، ربما لضيق الوقت وربما لأنه كان لا يزال بعدُ راغباً في تقديم البعد الأيديولوجي- السياسي الخفي، على البعد الحكائّي- الذاتي: أي أنه إذ انهمك في تعرية المجتمع من حوله وفي تعرية ذواتنا جميعاً، «نسي» أن رغبته الأساسية كانت تعرية ذاته، وهذا ما «سيفطن» إليه لاحقاً.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



مشاهدة فيلم حدوتة مصرية



عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)