النبي، جبران خليل جبران (لبنان)، تأملات جبران خليل جبران 1883-1931

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٧ مايو/ أيار ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«النبي» لجبران خليل جبران : أيّة قيمة فكرية أو أدبية لكتاب الروح هذا ؟


لا يمكن أحداً أن يماري في أهمية كتاب «النبي» الذي وضعه جبران خليل جبران في الإنكليزية وغالباً بمساعدة صديقته ماري هاسكل، ولا في شعبية الكتاب ونواياه الطيبة. ولا يمكن أحداً أن ينكر أن عشرات ألوف النسخ من الكتاب قد بيعت في الإنكليزية وفي العربية وفي لغات أخرى كثيرة. ولكن حين يتعلق الأمر بالقيمة الفكرية أو حتى الأدبية للكتاب فإن سجالات كثيرة تبدأ ولا تنتهي بين مناصرين له من دون قيد أو شرط، وآخرين يرونه ثقيل الوطأة أقرب الى الصياغات الإنشائية ومثيراً للملل ناهيك بأبعاده الأسطورية والغيبية والوعظية التي يمكن أن تردع أصحاب الفكر العقلاني عن تحمله. ومن هنا ما يُلاحظ عادة أن «النبي» يصبح على الموضة ويُقرأ بوفرة في كلّ مرة لا يعود فيها للعقل أو المنطق أية سيادة، أو سيادة قليلة على سلوكات الناس وتفكيرهم. أو هذا، على الأقل، ما يمكن أن يقوله مناوئون كثر للكتاب يعترفون طواعية، بأنهم أبداً ما تمكنوا من قراءة كل صفحاته، في وقت يقرّون فيه - طواعية أيضاً - بأن قراءة بعض صفحات وفقرات منه ربما كان من محاسنها أنه تفتح النفس على العودة، مثلاً الى «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، الكتاب الذي يمكن اعتباره المرجع الرئيس الذي اعتمد عليه جبران خليل جبران وهو يدبج هذا الكتاب الذي أعطاه مكانة عالمية في تاريخ الكتابة تمكن على أية حال مقاربتها ليس بمكانة نيتشه بالطبع، فهذا كثير، ولكن بمكانة تقع في مركز وسط بين معاصرنا باولو كويليو - الذي كجبران له مؤيدوه كما له معارضوه، لكنه في كل الأحوال يعرف من أين تؤكل الكتف (!) - والمفكر الروسي السابق كويليو زمنياً بعض الشيء غوردييف.

والحقيقة أن الموقف الأكثر وسطية الذي يمكن اعتباره خليطاً عقلانياً ومتوازناً بين كل المواقف من جبران ولا سيما من «النبي»، هو الموقف الذي أشرنا إليه في زاوية سابقة حيت تحدثنا عن كتاب ميخائيل نعيمة عن جبران والذي وضعه بعد أعوام قليلة من رحيل هذا الأخير وتسبب لنعيمة في سجالات لا تنتهي. يوم نشرنا الزاوية كان مرورنا على حكاية «النبي» كما تناولها نعيمة في كتابه يحمل شيئاً من الالتباس، ومن هنا سئلنا أن نوضح الموقف أكثر، وها نحن نفعل هنا، ناقلين عن نعيمة موقفه العقلاني الدقيق. فنعيمة الذي شهد، كما يؤكد، ولادة الكتاب، يقول إن هذا العمل وُلد «عندما تنسم جبران بخياله جمال الروح الكلي وشاقه أن يخبر الناس عنه، كان همه الأكبر أن يخلق القالب الفني. فما هو القالب الذي خلقه؟ لقد خلق جبران رجلاً دعاه «المصطفى» وجعل روحه نيّرة الى حدّ أن سامعيه كانوا يخاطبونه «يا نبي الله». ثم ها هو يبرزه غريباً في مدينة اسمها أورفليس صرف فيها اثنتي عشرة سنة في انتظار سفينته التي كانت قادمة لتعود به الى الجزيرة مسقط رأسه. وهنا إذ يتابع نعيمة حكاية «المصطفى» كما يعرفها كل من قرأ الكتاب، يتوقف بعد أن يمتدح القالب الذي صاغه صديقه، ليقول بوضوح «لكنه، ويا للأسف، لم يكن كله من صياغة جبران. فشكله الإجمالي مستعار من نيتشه وزرادشت. وهنا، بعد أن يفصّل نعيمة ضروب التشابه، بل التطابق بين الكتابين، يستطرد متوقفاً عند خصوصية جبرانية لـ «النبي» قائلاً: لئن دفع جبران في كتابه، جزية كبيرة لنيتشه من حيث القالب، فهو من حيث الروح (...) لم يدفع جزية إلا لخياله. وهكذا «إذا ما رأيت تشابهاً فائق الحد (...) فلا تتسرع بحكمك على جبران ولا تقل إنه قد نقل ما ليس له، بل قل إنه تناوله بخياله من حيث تناوله من قبل ويتناوله اليوم كل خيال انعتق من كابوس المقاييس والموازين...».

هكذا باختصار كان حكم نعيمة محايداً في شكل مدهش تجاه كتاب لمفكر لا يمكن أحداً أن يكون محايداً تجاهه، فأنت إما أن تكون معه أو ضده. فجبران، الذي رحل عن عالمنا في العام 1931، قضية وظاهرة، حتى ولو سلمنا مع الذين لا يحبون أدبه، بأنه ليس أديباً كبيراً، وأن أدبه لا يرقى الى الآداب الكبرى في قرننا العشرين هذا. جبران قضية بسبب حياته نفسها وعلاقاته، ونظرته الى العالم ورؤاه الفلسفية وتراثه الذي تركه وراءه ولا يزال محوراً لمعارك وخصومات لها شتى الأبعاد حتى يومنا هذا.

وحتى الذين يناصرون جبران، ثمة في ما بينهم درجات، فمنهم من يعتبره أكبر أديب في العالم، ومنهم من يرى فيه أديباً جيداً أنتجه بلد صغير هو لبنان ليزهو به على العالم. منهم من يقرأه بمتعة ويفرح بلغته الإنشائية الرومانسية، ومنهم من يقرأه وهو يرى أن لقراءته فائدة معرفية. منهم من يقرأه ليعرف الكاتب والإنسان من خلاله، ومنهم من يقرأه ليعرف نفسه.

أما الذين يقفون ضد جبران، فإن بينهم، هم الأُخر، درجات ومستويات. فهناك، مثل يوسف الصايغ، من يعتبره أديباً كبيراً لكنه يأخذ عليه أخلاقياته. وهناك من هم، على شاكلة ميخائيل نعيمة يثمّنون كتابته تثميناً معتدلاً، ويأخذون على معظمها اللاعقلانية. وهناك قبل هؤلاء من تستفزهم قراءة أي سطر لجبران معتبرين أن كل ما كتبه إنشاء في إنشاء ويتساءلون هل حقاً يمكن اعتبار كاتب «الأجنحة المتكسرة» و «دمعة وابتسامة» كاتباً جدياً، هو الذي عاصر تفجّر الكتابة الحديثة عند بدايات القرن العشرين على أيدي كافكا وبروست وجويس «فلم يفقه من ذلك شيئاً، وظل متمسكاً بكلاسيكية ويليام بليك الرومانطيقية معتقداً نفسه يضاهي في كتابته نيتشه»، فلم يكن أكثر من طبعة، معدلة بعض الشيء، من المنفلوطي! وهناك أخيراً أولئك الذين يسرهم أن يمضوا وقتهم وهم يحصون سرقات، أو لنقل استعارات، جبران من بليك ونيتشه في الكتابة، ومن بليك ومايكل انجلو في الرسم.

وبين هؤلاء وأولئك يظل جبران حياً، هو المدفون في بشري في الشمال اللبناني منذ نقل جثمانه من الولايات المتحدة حيث مات باكراً، يائساً ولم يكن يتجاوز الثامنة والأربعين من عمره، وكان في ذلك الحين قد بلغ قمة المجد ولا سيما من خلال كتاب «النبي» الذي يظل الأشهر بين كتبه جميعاً، ذلك التأمل شبه الفلسفي الذي كتبه جبران بالانكليزية وترجم خلال نصف القرن التالي الى عشرات اللغات ليساهم في تكوين شهرة جبران الأساسية وليقرأ بوصفه كتاباً في الروحانيات، لا كتاباً أدبياً بالطبع.

جبران، الذي يكاد يكون الى جانب نجيب محفوظ، الكاتب العربي الوحيد الذي ترجم الى لغات العالم ليُقرأ حقاً، فقرئ مثله وعلى نطاق واسع، جبران هذا يعتبر اليوم في لبنان مفخرة قومية - وغالباً، ثروة قومية تدور الصراعات العشائرية والعائلية من حولها، وهو أمر يحدثنا عنه بشكل حاذق الباحث اللبناني جان بيار دحداح، الذي وضع سيرة لجبران مميزة ومتكاملة صدرت في الفرنسية وثنّى عليها دحداح بترجمة وإعادة ترجمة العديد من كتابات جبران الأخرى، ما فتح عليه - أي على دحداح - عيون الكثير من المنتفعين عادة بأفكار جبران وتراثه وثروته فبدأ الهجوم عليه. جبران إذاً، مفخرة قومية لبنانية هو الذي كان يعلن نفسه سورياً وعربياً من دون أي التباس، وجبران يُستعمل سلاحاً في التناحر الطائفي رغم انه كان أبعد الناس عن الطائفية وكان جزء كبير من حياته مكرساً للنضال ضد الكنيسة.

ولد جبران العام 1883 في بشري شمال لبنان، وهاجر فتياً الى بوسطن ليعود بعد ذلك الى لبنان ويدرس في مدرسة الحكمة، وبعد ذلك كان تنقله الدائم بين بوسطن ولبنان وباريس ونيويورك، وكانت سلسلة كتبه بالعربية والانكليزية، وهي كتب يطبعها طابع رومانسي ميتافيزيقي غاضب. في العام 1920 أسس جبران الرابطة القلمية، ثم شارك في لجنة تحرير سورية ولبنان، ومارس خلال حياته الرسم والكتابة، واشتهر بعلاقاته النسائية، ولا سيما مع الأميركية ماري هاسكل، التي يصفها يوسف الصائغ بأنها كانت علاقة نفعية من جانب جبران. كما ان تاريخ الأدب حفظ علاقته البريدية بمي التي يبدو انها كانت تكن له حباً شديداً ساهم في إصابتها بالجنون. جبران، إذاً، اليوم حي وكأنه لم يمت، ولكن المشكلة تكمن في انه حي اكثر من كتاباته، اذا استثنينا منها كتاب «النبي» الذي تباع منه سنوياً، وفي شتى لغات العالم، عشرات ألوف النسخ.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)