اللص والكلاب، نجيب محفوظ (مصر)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة رأي اليوم الإلكترونية


الأحد 16 يونيو 2019
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
أيمن المناصير


كومة ألغاز.. قراءة في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ


لقد أسهم الخوف على مدار الزمن إلى الاختباء في حضن الرمز هروبًا من سيف الرقيب ومحاكمه، ولقد أنطق بعضهم الحيوانات كي تنوب عنه، ولعل كليلة ودمنة ومزرعة الحيوانات تقفان شاهدًا على حقب من خوف، كما استدعى أمل دنقل التاريخ وحاكم مرحلة كاملة عندما طوّع الرمز لفكرة نصه، أمّا لصّ محفوظ وكلابه فنصّ مشفّر لا يقلّ أهميّة عن تلك النصوص الخالدة.

أراد محفوظ أن يحاكم ثورة انقلبت على مبادئها وتنكرت لنماذج صنعتها بيدها، عندما سوّقت الاشتراكية للبسطاء ووعدت بتحرير الإنسان الذي لا بدّ أن يدرك ذاته ويتعرّف حقوقه المسلوبة من أصحاب “القصور” الذين استعبدوا طبقات اجتماعية بكاملها، ثم يأتي الأمل على شكل لافتة مستنيرة تستثير طبقات مهمّشة تدعو إلى إعادة ترسيم المسافة بين “القصور والأكواخ”، ثم ما تلبث أن تنكفئ، ليتساءل المواطن بحيرة ” تخلقني ثم ترتد، تُغيّر بكلّ بساطة فكرك بعد أن تجسّد في شخصي”.

ولتسويق هذا النظام تم ّاستخدام خطاب رومانسي حالم يغازل أحلام البسطاء المتعطشين إلى التّغيير، الذين وجدوا أنفسهم -ذات حلم- مجرد دولاب في قطار أوصل انتهازيين جدد إلى صدارة المشهد، غيروا بزاتهم فقط وحلّوا في القصور ذاتها.

ينطوي العنوان على الكلمة المشفرة التي يريد الكاتب أن يدلي بها في زحمة الكلمات والرسائل التي تكتنف جسم الرواية، فيأتي ليشي برسالة الكاتب المخبوءة بين السطور، لذلك يحاول الكاتب اقتناص كلمات عنوانه بذكاء حتى لا يغدو نصه نقطة عمياء مغلقة.

والناظر إلى اللافتة التي اختارها محفوظ لروايته يجد فيها من البساطة ما قد يقنع بمرور النص من عتبة الرقابة لنص مثقل برموزه ودلالاته في زمن كان تفلُّت الكلمات من قبضة الرقيب يحتاج إلى حيلة تغري بقبول النص ومروره.

إنّ المتفحص لمفردات العنوان يرى أن الكاتب يخاطب مجموعة من المعارف: ” اللص والكلاب” فهو يعرفهم عن كثب، ويستثمر العنون في الإعلان عن موقفه تجاههم سواء أكان بالتعاطف أم بالإدانة، لذلك نجده يضفي على اللص المثقف سمة البطولة كأنّه آت من مجتمع الصعاليك الذين يرون في السرقة حقًا مشروعًا تفرضه العلاقة المتوترة بين “القصور والأكواخ” وما للفقراء من حق في أموال الأغنياء، ليضفي على بطله طابع البطولة والأسطوريّة، وفي الجهة المقابلة إدانة واضحة لكلاب كانوا” كالحقيقة العارية” ضربوا الشعب في مقتل، عندما خانوا أحلامه وطموحاته في التغيير، ليتساءل محفوظ بحرقة ” كيف غدا الاسمان اسما واحدا؟” في إشارة واضحة لتجريم كلّ “جثة عفنة لم يواريها التراب بعد”، كل جثة خانت مشروعها، وباعت مبادئها في أول مزاد علني، وبهذا المعنى يغدو العنوان حاسما منحازًا لبطله على حساب كلاب غيّرت جلدها، عنوان مُكثِّف لرسالة الكاتب، يوزّع من خلاله شهادات البراءة والإدانة على حدّ سواء من أول عتبة من عتبات النص.

ولعله من المثير أن يكون اللص مفردا ككل دعاة الثورة وككل الأبطال الشعبين ليحمل العبء وحيدا، في مقابل جمع كلاب تنبح عليه في كل اتجاه، لكن الغريب حقا أنه و”لأول مرة سيلاحق اللص الكلاب”، إن لم يكن لاجتثاثهم، فعلى أقل تقدير كشفهم وتعريتهم.

ومن اللافت أيضا خروج الكاتب عن المعنى الدلالي الثابت في وجداننا للكلاب التي تتصف بالوفاء ولعل كسر التوقعات جاء ليزيد من وقع المفارقة والإدانة لمجتمعات انقلبت على مفاهيمها، وليعري واقعا جعل الكلاب البشرية أشد شراسة وضراوة، ومثالا حاضرا للخيانة التي تدفع البطل لأن ” يحترم الخنفساء والعقرب والدودة” في مقابل “جرب الكلاب” الذي طعن صديقه في الظهر.

وبهذا المعنى يحقق العنوان وظيفته الاستفزازية ويخلق عنصر الإدهاش الذي يغري القارئ للولوج إلى النص دون هوادة، ليتعرف اللص وقصته والكلاب وحقيقتهم.

لقد عمد الكاتب عند بنائه لشخصياته أن يجعل منها قاطرة قادرة على حمل رسالة الكاتب إلى محطتها الأخيرة، ولقد جعل من شخصية سعيد مهران واسطة العقد وبؤرة تجمّع الأحداث وملتقى الشخصيات سواء أكانت شخصيات داعمة أم شخصيات معيقة، وقد عمد الكاتب من خلالها إلى الكشف عن جوانب مضيئة في شخصيات قد تبدو معتمة من وجهة نظر المجتمع، لذلك عمد إلى إبراز الجانب المشرق في شخصية الراقصة “نور” التي أحبته بإخلاص، فقد كانت ” جنته وسط الرصاص الذي يَجِدُّ خلفه”، ووفاء ابن البلد المعلم طرزان، حتى ولو كان هذا الوفاء يتمثل “بتأمين السلاح” لجريمة قد تبدو قيد الحدوث.

وفي الجهة المقابة قام بتعرية الزوجة نبوية وإدانتها” تلك المرأة النابتة من طين الخيانة” والصديق عليش” جامع الأعقاب” اللذين ضرباه في مقتل، في خيانة تمت على مرأى ومسمع من الجميع، لكن خيانتهما تبدو متقزمة متضائلة إذا ما قورنت بخيانة المبادئ، لذلك كان “رؤوف علوان” العدو المباشر المنقلب على مبادئ ثورة تنبأ بها ودعا إليها ” تخلقني ثم ترتد”، في إشارة تبدو واضحة لمن باعوا الجماهير كلامًا وفروا بالإبل، لذلك ظل البطل مصرا على تحميله المسؤولية الكاملة، لما يحمله من رمزية خاصة لبائع أحلام غرّر بمريديه، وكان الإصرار على النيل منه أولويّة لجماهير ثائرة ” سأطلب دائما رأس رؤوف علوان، حتى ولو كان آخر طلب من عشماوي، حتى قبل رؤية ابنتي سناء”، ولعل هذه المفاضلة بين شعور الأب من جهة وبين تحقيق العدالة من جهة أخرى، تظهر رومانسية البطل ومثاليته، وشعوره بأن الوفاء للحلم والمشروع يعادل أو يفوق اهتماماته الشخصية.

ولم يَغْفل محفوظ عن فئات ارتضت أن تعيش على الهامش في فترة تضجّ بالتحوّلات، إذ” ترنّح الأب حتى غابت عيناه، وبُح صوته” فئات ارتضت أن تعيش في ملكوتها منفصلة عن واقع مليء بالدسائس، حتى أن الشيخ الجنيد أسر له: “لأنني أسمع كثيرا لا أكاد أسمع شيئا”، ولقد أصرّ على تَرْكِ الساحة لطلاب الدنيا والتبرؤ من عالم مليء بالموبقات، لذلك جاءت “توضأ واقرأ”، لتعزز مشاعر الانفصال عن الواقع ” لشيخ غائب في السماء، مردّد لكلمات قد لا يعيها مقبلٌ على النار” بدعوى الزهد والعبادة والتبتل، ليغدو الزاهد بهذا المعنى بعيدا عن واقعه، متواطئا مع جلاديه، مقدما حلا مخدّرا لمن اسْتُلبت حقوقهم، ممن عملوا على “تقديم تفسير للقران يتناسب مع القدرات الشرائية” ليتحوّل المذهب ورجل الدين في خدمة سلطته، وينسحب مختارا من دوره التاريخي القائم على ثنائية التوعية والتصدي.

ولقد أدار الكاتب رحى صراع الأفكار والقيم المحتدم بين مكونات نصه في مستويات متشعبة، إذ يعمد إلى كشف كل طرف من خلال محاكمةٍ لأفكاره ومسوغاته من حيث صدقها واتصالها بالحالة الراهنة، ليصل ببطله في نهاية المطاف إلى أنّ نبل المسعى لا يعني بالضرورة تحققه في المدى المنظور.

السارد المعني بتقديم الحدث وإنجازه، ووصف الشخصيات والأماكن، جاء منحازا لأفكار مهران، إلى الحد الذي تجد فيه صعوبة في فك الاشتباك في بعض اللحظات بين السارد العليم وبطله، ليتوحدا ويتحدثا بلسان واحد، ويعبرا من خلاله عن مواقفهما ” فلعله تغيّر حقًا، فلم يبق من الشّخص القديم إلا ظل صورته”، في إشارة إلى من بدّل وتغيّر، ولم يكتف السارد ببناء الشخصيات وكشف أفكارها، لكنّه تحوّل إلى لسانٍ ناطقٍ باسم بطله، ملزمٍ بالدفاع عنه، محاول تفسير أفعاله وتوضيحها، إضافة إلى أنه عمل على تحليل تصرفات الأخرين وتجليتها، فما ترحيب مهران به “إلا مجاملة بنت حياء”، إضافة إلى تعاطفه مع مبرراته حتى الرمق الأخير عندما استسلم سعيد لقدره “بلا مبالاة، بلا مبالاة” وكأنّه يسخر من حياة لا تليق بلص نذر نفسه أن يساوي ما بين بؤس الأكواخ وترف القصور، ولم ينس في الوقت نفسه أن يدين حالة الصمت التي تلف المشهد السياسي، منتقدا التعاطف المنقوص ” فعطف الملايين عليك عطف صامت عاجز كأماني الموتى”، عطف لا يستحيل تمردا، ولا يحمل أي نوع من أنواع الاحتجاج.

وقد استخدم الكاتب تقنية الاسترجاع الزّمني على هيئة جُرَع تزيد من حدة استدعاء الألم من أجل تأجيج نار الثأر ممن بنوا أمجادهم على أكتاف البسطاء، فقد استدعى أفكار “علوان” الذي كان أستاذه ومعلمه وملهمه عندما رسّخ في ذهنه مبدأ الحقوق:” أليس عدلا أن ما أخذ بالسرقة فبالسرقة لا بد أن يرد؟” ليعطي السرقة بهذا المعنى دورا نضاليًا يشرعنها، ويجعلها معادلا موضوعيا لرد المظالم وإرجاع الحقوق لأصحابها، ويلبسها ثوبا ثوريا عندما يلجأ إليها من أجل تحقيق العدل والقضاء على التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي، “تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها” عاشها مهران بكل ندية وإيمان، أما الآن فيصرخ من كل جوارحه” يا أيتها القبور الغارقة في الظلمة لا تسخري من ذكرياتي”.

ولعل رحلة الثأر التي امتدت على مدار جسم الرواية تمثل واحدة من الحلول الثوريّة الراديكاليّة التي يتبناها ثائر”سينقضّ في الوقت المناسب كالقدر” بعد أن وجد نفسه وحيدا في عالم لا ينتمي إليه، لذلك أعد للخونة “المطرقة والفأس وحبل المشنقة”، في قرار قد اتخذه مبكرا، بعد سنوات عجاف ذاق مرها وراء القضبان، وتجرّع الغدر وخيانة الأفكار وانقلاب المُثل.

كما لجأ الكاتب إلى مجموعة من الحيل السرديّة وربما من أبرزها (الحلم) الذي حلل من خلاله بعين اليقظ أفكارًا تبدّلت ومراكز تخلت طوعًا عن أدوارها ” فرؤوف علوان مرشح لوظيفة مشيخة المشايخ لأمانته” وسط ذهول صاحب الحلم من واقع غريب يتشكّل، تبدو فيه الصورة على غير ما كان يتمنى ويأمل.
ولعله وجد في الحلم نافذة يطلّ منها على الواقع الذي تبدلت مفرداته وأسند فيه الأمر لغيرأهله، ولكأنّه يُشَرِّح من خلاله واقع ثورة بدلت الباشوات بسوبر باشوات، ويوجّه نقدا لاذعًا لمن ركبوا قطار مصالحهم واستبدلوا “النذير بالزهرة”.

ومن الحيل اللافتة التي احتال بها الكاتب ليوصل رسالته، تلك المحاكمة المتخيلة التي حاول فيها اللص إدانة ” أستاذه الخطير الذي لم يكن إلا وغدا خائنا” ويستدرك سعيد ” والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أنني داخل القفص وأنتم خارجه، وهذا فرق عرضيّ لا أهمية له البتة” وفي هذه المحاكمة يحاول أن يفكك المسألة من جديد ليعيد تموضع الشخصيات بغية إعلان براءة شعب مغلوب على أمره” فأنت واثق مما تقول، وفضلا عن ذلك فهم يؤمنون في قرارة أنفسهم أن مهنتك مشروعة، مهنة السادة في كلّ مكان وزمان” وكأني أرى عروة بن الورد ورفاقه يطلون من نافذة مهران، ليتماهى وصعاليكه مع صعلوك جديد نذر نفسه أن يكون حلما للمسحوقين وجلادا لسادة فقدوا مبررات تسيّدهم، ويحاول محفوظ من خلال هذه التقنية التي تصب في مصلحته أن يعيد تعريف المصطلحات ويسمي الأمور بأسمائها.

ومن اللافت أيضا كشف الكاتب عن أيدلوجية سعيد مهران ذاك اللص الذي آمن بثنائية “المسدس والكتاب” وقرّر أن يساوي بين القصور والأكواخ، إذ كيف يحظى بمحاكمة عادلة وبينه وبين “قضاتهِ خصومةٌ شخصية” وهم “أقرباء للوغد”، لكن بارقة الأمل تظهر بطرف خفي عندما يتعاطف قاض مع مشروعه، فقد ” غمز قاضي “اليسار” بعينيه فأبشر” ليعيد النص إلى مربعه الأول عندما آمن باشتراكية تنصف الفقير وتعيد تموضع الغني في مكان يليق بالعدالة الاجتماعية.

سيل تيار الوعي كان صاخبا، يغلي في رأس سعيد كمرجل، كاشفا عن تأمل عميق يصف المشكلة ويحللها، ” فقد كنت تطمح أن تزلزل الكون من أساسه، وكلمات رؤوف التي آمنت بها وكفر بها صاحبها أطاحت برأسك نحو الموت” وقد أجاد محفوظ لعبة تناوب الضمائر ليغدو الحديث وكأنه آت من صوت خارجي، ليزيد من واقعية الخطاب ومصداقيته، كما يُظهر تيار الوعي سعيد مهران كمعادل موضوعي للشعب وطموحاته ” إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل”، لذلك كان مقتنعا ببراءة مشروعه فكلماته ” ستتألق ويتوج بالبراءة”.

ولعل ما يثير الانتباه حقا في أسلوب محفوظ قدرته على دمج اختياراته بصورة تجعل فك الاشتباك بينها يحتاج لخبرة ومهارة، إذ تتناوب التقنيات وتتجاور كلوحة يزيدها تداخل الألوان قيمة وأصالة.

ولعل ما يثير الإعجاب في لغة محفوظ قدرته على إدهاشك لغويًا من خلال لغة متماسكة قويّة، لكنّ هذه اللغة تتسرب خلال الرواية لتعبّر عن مستويات لغوية متعددة، فنجده يتقن لغة الحارات الضيقة والحوارات البسيطة” سعيد مهران، يا ألف نهار أبيض”، ليصعد معك إلى طبقة لغة المثقفين ونقاشاتهم وحواراتهم،” فلا حرب الآن، لتكن هدنة ولكل جهاد ميدان” وهذا الميدان المتغيّر المتقلّب مربط الفرس وبيت القصيد، لثلة ارتضت أن تشرب نخبا في” صحة الحريّة” وتتنكّر لمبادئها.

وستلفك الطمأنينة عندما تدخل معه زاوية الشيخ الجنيد، إذ سيرتفع مستوى اللغة الصوفية وتتعلق معه في ملكوت آخر ومصطلح لم تعتده في الصفحات السابقة، فقد ” ضعف الطالب والمطلوب ” فسعيد الواقف بين يديه” لم يخرج من السجن” الذي قيّد فيه نفسه؛ لأن من ” غاب عن الأشياء غابت عنه الأشياء “، لينقلك من خلال هذه اللغة إلى أسئلة عميقة، وتوصيف للحالة البائسة التي وجد الشعب نفسه عليها ذات ثورة “نمتَ طويلا ولكنك لا تعرف الراحة، كطفل ملقى تحت نار الشمس، وقلبك المحترق يحن إلى الظل ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس، ألم تتعلم المشي بعد؟ ” سؤال ساخر عاصف كاشف عن انكسارات بالجملة، تؤرخ للحالة السياسية الراهنة وجذورها.

ولقد ظهرت اللغة الاستعارية على لسان الراوي العليم المعني بتقديم النص ورسائله المخبوءة تحت قناع اللغة، فسعيد مهران ” يتنفس مرة أخرى نسمة الحريّة، لكن الجو خانق وحار لا يطاق” لتتكفل اللغة بإيصال الرمز من خلال التورية والتعميم المقصود، لتصف الحالة السياسية الراهنة لثورة نكّلت بأبنائها وخنقتهم، ولم تسمح بمرور بنت شفة إلا من تحت مقصلة رقيب لا يرحم.

كما لجأ محفوظ إلى حيلة اختيار الأسماء التي تظهر مفارقات بالجملة ، فسعيد الذي انكرته ابنته لم يذق طعم السعادة قط ” خسر أربعة من السنين الغالية”، ونبوية تنازلت عن طهر الزوجة ووفاء الأنبياء” تلك المرأة النابتة من طين الخيانة”، أما نور التي تعيش في عتمة الملاهي والمراقص فمحبة مخلصة اضطرتها الظروف للانزلاق إلى قاع المجتمع، لتجد نفسها “بلا نصير في خضّم الأمواج المعادية” لكن ذلك لن يمنعه من أن “يدفن في صدرها ضياعه وخيانة الأوغاد”، أمّا رؤوف فلم يرأف بجماهير كانت تلهج بأفكاره عندما ركب أول قارب يحمل مصالحه وطموحاته، ولعل محفوظ يريد من لعبة اختيار الأسماء أن يظهر حجم المفارقة الدالة على انقلاب المبادئ والقيم في المجتمع، والتي هي نتاج طبيعي للمجتمعات المأزومة المخنوقة، وكأنه من خلالها يحاكم التغيرات الاجتماعية التي أحدثتها الهزات السياسية العميقة التي عصفت بالمجتمع.

ولقد اتكأ محفوظ على الصور الفنية بغية تجسيد الحقيقة وتعرية الخيانة وإظهار وجهها الفج ” فقد نامت الخيانة في هدوء بديع لا تستحقه”، والسخرية من الخونة “فإن يكن قي القصر كلب -غير صاحبه- فسيملأ الدنيا نباحا”، إضافة إلى قدرة الصورة على توجيه أصابع النقد والاتهام “لقصر بدا مسدل الجفون” عن واقع الناس وحياتهم البائسة، ولم يعبأ بوعود صمّت الآذان.

ولقد هيمن الأسلوب الخبري على النص بغية كشف المتلونين وبيان نقاط إدانتهم فقد “آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا، وللخيانة أن تكفّر عن سحنتها الشائهة”، كما وظّف الأساليب الإنشائيّة مُعبرًا من خلالها عن فئة عاشت على عذابات الشعب ومارست أدوارًا تهدف إلى تسكين وتخدير الشعوب وإقناعها بمثالية حياتها “فما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر!” على حد تعبير مهران الساخر الذي ما زال يعدّ نفسه للثأر ويصغي إلى هواجسه “استعن بكل ما أوتيت من دهاء ولتكن ضربتك قوية كصبرك”.

ولقد بقي الكاتب على عهده، متعاطفا حتى الرمق الأخير مع بطلٍ ظل يحلم بالثأر “فهذا المسدس المتوثّب في جيبي له شأن، فلا بد أن ينتصر على الغدر والفساد، ولأول مرة سيطارد اللص الكلاب”، حتى في أقسى درجات اليأس، يعلّق قلبه باستراحة المحارب وهدوء العاصفة التي تنذر باشتدادها فهو “سيهرب ويستقر طويلا ثم سيعود لينكّل بالأوغاد”، في معركة مفتوحة على كلّ الاحتمالات، تشي بأنّ الثائر الساخط لم يحقق أحلامه بعد، ليبقى على تماس مباشر مع طموحات جماهير لا تزال عالقة بأحلامها.

وإني لأرى “الشيخ إمام” من خلال مغناته ” شيّد قصورك في المزارع” قد أعاد أحياء مشروع الثائر سعيد مهران، وأدرك رموز محفوظ وألغازه، رغم أنه مدرك بأن الخونة لن يقفوا مكتوفي الأيدي، لذلك تحداهم:

” وأطلق كلابك في الشوارع،

وأقفل زنانزينك علينا”

ولعل مثل هذه الأعمال الإبداعية تشير إلى أن جذوة التغيير لم تخمد بعد، وربما هذا ما يبرر تلك النهاية المفتوحة المتعاطفة التي اختارها محفوظ لبطل حالم ما زال متعلقا بتلابيب الأمل، بطل ” جاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة”.

وقبل وضع النقطة في أخر هذا المقال، أرى أن محفوظ رائد السهل الممتنع بحق، فقد استطاع وبكل اقتدار من خلال لصه أن يوجه نقدًا لاذعًا لكلاب لم ترأف بحال شعوب انهكتها الخيانة والغدر والانقلاب على المبادئ، حتى غدا النص كومة ألغاز تحلّل المشهد وتشير إلى مواطن الخلل وتضع اليد على مكامن الوجع.

عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية

من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية

سياستنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.

اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.

لقراءة المزيد


على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)