الضباب، ثروت أباظة (مصر)، رواية مكتبة النيل - 2000

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 8863 الخميس 22 حزيران (يونيو) 2017 - 27 رمضان 1438هــ
سرين بلوط - كاتبة لبنانية


«الضباب» للمصري ثروت أباظة : حكاية من زمن «زغلول باشا»


معظم الروائيين الذين تحوّلت رواياتهم إلى أفلام سينمائيّة، غاصوا في سلوكيات المجتمع وجنوح أفراده نحو الخير أو الشر، مستشهدين بما يتناغم مع لغة جذب القارئ، سواء استخدموا اللغة القمعية أو النرجسية أو حتى الهامشية.

في رواية «الضباب» للكاتب المصري ثروت أباظة، يطلّ علينا زمن سعد زغلول، بما تضمنّه من وصفٍ وتوصيف للزمن القديم، بدءاً من «الحنطور» وانتهاءً بالسيارة المكشوفة.

تبدأ الرواية مع الحاج «والي عبد الهادي» بشخصيته الطيبة، وعقدته البارزة في عدم إنجاب أطفال من زوجته الطيبة «بمبة» رغم ماله الكثير، فتسعى إلى حلّ هذه المشكلة بأن تخطب له امرأة أرملة من الفلاحين، إكراماً لعشرته، ورغبة دفينة بأن يحظى زوجها بأطفال لم تستطع هي أن تنجبهم. ولم تكتف بهذا، بل أكرمت ضرّتها بأن تكفّلت بتربية ابنها اليتيم «حسين»، وأقامات جسور الرحمة في المنزل حتى تحلّ البركة فيه.

وتموت زوجته الثانية وهي تضع له مولوده «محمد»، وتمر الأيام ويكبر الولدان.. حسين يمثّل عقدة «الشخصية الاعتمادية»، التي تشعر دائماً باليتم والوحدة، وبأنّها تعيش عالة على غيرها، تتنفّس من الهواء الذي يقدّمه إليها الغير. ويلاحقه جميل زوج أمه الحاج والي ويقض مضجعه، فيقرّر الرحيل إلى مصر حتى يدرس ليصبح شيخا في الأزهر، ولكنه سرعان ما يحيد عن الدرب بعد علاقة آثمة مع جارته المتزوجة، ويتجّه للتعليم وتنظيم الشعر ونشره في الجرائد، وكتابة الأغاني للمطربين والمطربات، حسب هواهم وليس مشاعره هو، حيث يكسب المال الكثير ويخسر نفسه.

ومحمد الذي يمثل «الشخصية التجنبية، التي تبذل جهداً في تفادي النقد، وتحتمي بالوحدة والعزلة، ينشأ مكبّلاً بأغلال أبيه المسيطرة، الذي يرسم له أن يكون طبيباً فيفعل، ويخطط عنه بأن يتزوّج من «هنية» ابنة صديقه فيتزوجها من دون مقاومة أو اعتراض.

الشخصيتان هنا تمثّلان وجهين متناقضين، تجمع بينهما روح الثورة، التي بثّت شرارتها أولا في قلب حسين ثم في صدر محمد، حين قام الأول بالابتعاد عن الحاج والي، الذي يمثل له رغم كرمه معه، الماضي البعيد والدمعة المنحدرة أبداً على خدّه، بسبب ما عاناه من عقدة الاتكال عليه، ثم عندما ثار محمد لكلّ هذا الاستسلام للحاج والي فأرسل لهنية ورقة الطلاق رغم إنجابها طفلا منه، وغرق في لعبة القمار.

يتكاثف الضباب في حدقتي الحاج والي، وقد بدأ بالتكدس عندما رزق بمحمد، ثم لما تناهت إلى مسامعه أخبار حسين ومغامراته النسائية في القاهرة، وعندما طلب منه الأخير أن يتزوج من هنية طليقة أخيه، ثم عندما قرّر ولده محمد أن يتزوج بآمال ابنة زين العابدين أحد كبار الأعيان في القرية.

الرواية تتابع بأحداث عارمة تحدث ارتطام الدهشة، وانتفاء عنصر المفاجأة حيناً آخر. وتتفاقم الصدمة عندما يكشف السر الأعظم في خيانة آمال لمحمد وتبديد معاني الإنسانية بكلّ أصولها، رغم التقاليد المحاصرة للمرأة التي كانت سائدة آنذاك، تظهر الطبيعة البشرية بغرائزها المكبوتة في أوج صورها، لتؤكد بأنّ الخيانة والفساد لا تاريخ لهما.

الكاتب لم يفصّل ملامح الثورة في زمن الرواية رغم أنه تحدّث عن توقيتها بالمكان والزمان، واكتفى بأن مرَّ مرور الكرام على عهد زغلول وما أحدثته الثورة من اتقاد حي في النفوس، وهيّأ الرواية بأن تكون فيلماً سينمائياً تتوهّج به الشاشة لتعكسه في مرآة الحياة. ولعلّه نجح في تفصيل غور الشاعر عندما وصف حسين بعشقه للشعر، وأبدع في تبديد المنطق عندما كشف عن خيانة آمال غير المنتظرة لزوجها محمد.

وإذا أخذنا النقد الوصفي والمعياري في تقييم الأحداث، وتعليل لغة السرد، وتحليل المشهد، فإنّنا نرى خللاً واضحاً في التركيب الهيكلي للأحداث، من حيث إبراز شخصيات مباغتة في الرواية، دون تحضير مسبق، لكنه نجح في إبراز الماهية الحقيقية للنهج الوصفي، الذي طوّره وركّز دعائمه دي سيسور في أوروبــــــا، دون أن يغفل عن طي النقطة الزمنية للرواية وفق احتياجها وتأقلمها مع أبطالها.

تخبّط الكاتب في ضباب يشبه عنوان روايته، كابتكار الأمازيغ خط «تيفيناغ» ، وهي من أقدم الأبجدية في تاريخ الإنسان، لكنها توصف بأنّها حروف غامضة شاردة ذاهلة.

ثروت أباظة هو واحدٌ من الروائيين الذين حفروا في تاريخ السينما المصرية وعزفوا على لحن التشويق والجذب، دون أن يحفروا في الرمال خيمة تقيهم لظى أخطاء كثيرة في لعبة التحكم في الأحداث، والتركيز على ماهية الذات البشرية.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


ثروت أباظة على ويكيبيديا

رواية الضباب للكاتب المصري ثروت أباظة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)