الزيني بركات، جمال الغيطاني (مصر)، رواية صدرت لأول مرة عام 1969

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٧ يوليو/ تموز ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«الزيني بركات» لجمال الغيطاني: من الماضي إلى الحاضر


حين صدرت في العام 1969 للمرة الأولى، قصة جمال الغيطاني الطويلة، «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، بدا على الفور أن كاتباً كبيراً جديداً قد ولد في مصر. بل أكثر من هذا، بدا أن روحاً جديدة قد انبعثت في الرواية المصرية. ومع هذا، كان من الضروري انتظار ست سنوات أخرى، أي حتى العام 1975، قبل أن يؤكد الغيطاني حضوره الكبير في فن الرواية التاريخية. وكان ذلك مع صدور «الزيني بركات». في ذلك الوقت، كان صاحب «الزويل» و «ذكر ما جرى» و «حكايات الغريب» وغيرها من نصوص صدرت تباعاً بعد «أوراق شاب...»، قد أضحى في الثلاثين من عمره، هو الذي لن يتوقف منذ ذلك الحين وحتى رحيله قبل فترة، عن رفد المكتبة العربية بروايات وقصص مدهشة غالباً ما تتسم بغرابة لافتة، ناهيك بأنه يمكن اعتبارها واقفة على هامش الإبداع متراوحة بين نصوص تاريخية ومنمنمات لغوية وتأملات صوفية وما شابه ذلك، ومعظمها يغوص في التاريخ مشتغلاً على لغة بدت دائماً أقرب الى اللغة التراثية واصلاً فيها أحيانا الى حافة التنميق اللغوي المستعصي على الفهم. ومع هذا كان الغيطاني في سنوات الستين، قد عمل مراسلاً حربياً لمؤسسة «أخبار اليوم» التي سيصدر لاحقاً ضمن إطار إنتاجاتها، مجلة «أخبار الأدب» التي كانت ذات شأن كبير في الثقافة العربية منذ تأسيسه لها في العام 1993.

مع هذا كله، تبقى «الزيني بركات» الأشهر والأكثر اكتمالاً بين أعمال الغيطاني. بل إنها تعتبر من جانب العديد من قرائها، الرواية التاريخية العربية بامتياز، ولكن ليس بالمعنى الحدثي أو الكرونولوجي أو الماضويّ للكلمة، بل بالمعنى الأدبي الصارم الذي يجعل من أي عمل روائي تاريخي حقيقي، صورة أيضاً للزمن الذي يعيش فيه المؤلف ويكتب، في تلك اللعبة الجدلية التي أبدع جورج لوكاتش في الحديث عنها محللاً أن الرواية التاريخية الحقيقية هي تلك التي تتأرجح بين ذكر ما حصل، والإشارات الواضحة أحياناً، المضمرة في أحيان أخرى، الى ما يجرى هنا والآن. والحقيقة أنه إذا كان هذا البعد ينطبق على «الزيني بركات» فإنه يكاد ينطبق كذلك، وبالقوة نفسها على معظم إبداعات جمال الغيطاني.

وما هذا إلا لأن الغيطاني كان، إضافة الى كونه صاحب مشروع أدبي متكامل، صاحب تفكير وموقف سياسيين واضحين لا يحملان أي التباس. فهو، الذي ولد في حي الجمالية الشعبي القاهري، غير بعيد من مكان ولادة «أستاذه» وصديقه نجيب محفوظ، حمل منذ البداية همّ مصر وتاريخها وناضل في سبيلها كابن لثورة 1952 - مقارنة بمحفوظ الذي كان ابن ثورة 1919 -، حتى وإن كانت سلطات الثورة اعتقلته بين 1966 و1967 لأسباب سياسية. في السجن لم يتوقف الغيطاني عن الكتابة وعن التفكير في مصير بلده، ولكن أيضاً في الكيفية التي يمكن بها لكاتب شاب أن يعيد اختراع الرواية المصرية بعد تجديدات نجيب محفوظ التي كانت قد أضحت سداً في وجه أي تجديد. مهما يكن، فإن الغيطاني سيطلع من تجربة السجن، بالعديد من المواضيع وكذلك بالتفاتة عميقة الى مصر وكل ما يتعلق بتاريخها. ومن هنا تراكمت لديه المشاريع الكتابية التي ظل يشتغل عليها طوال حياته، مصدراً عدداً لا يحصى من القصص والروايات والنصوص. ونعرف أن بعضاً من إنتاجه ترجم الى لغات عديدة بينها الفرنسية، ولا سيما «الزيني بركات» التي لاقت حظوة كبيرة في الحياة الأدبية الفرنسية حيث اعتبرت من أنجح الروايات التاريخية العربية. وهي استقبلت هناك، ليس فقط كعمل أدبي، بل كظاهرة استثنائية في الأدب العربي انطلاقاً من ربطها المدهش بين الماضي والحاضر، وبالتالي تمكنها من تقديم صورة معاصرة لمصر لم تكن معهودة بما فيه الكفاية.

إذاً، فإن أول ما يلاحظه القارئ في «الزيني بركات» هو أن زمنها الحقيقي ليس الزمن نفسه الذي تدور فيه، ولا هي الظروف التاريخية نفسها. ولئن كان هناك كثير من التشابه بين ما يؤثر عن سيرة الظاهر بيبرس، وبين موضوع «الزيني بركات»، فإنه يتعين النظر اليها، على رغم «تاريخيتها»، كرواية معاصرة، تتحدث عن أزماننا كما عن صراعات أجهزة المخابرات في هذه الأزمان. وهي إذا كانت تحيل، في موضوعها هذا إلى أزمان ماضية (بداية القرن السادس عشر) وتستعير من زمن بيبرس بعض ملامحه، فما هذا إلا لأنها أرادت أن تقول أموراً خطيرة عن الزمن الذي يعيش فيه كاتبها. ومن هنا فإن النقد الذي يفرد مكانة مهمة لـ «الزيني بركات» يعرّف قراءها بها، بكونها تدور، أحداثاً، بين العام 912 والعام 923 هـ (1507 - 1507م)، في مصر «التي كانت تعيش في ذلك الحين آخر زمان السيطرة المملوكية». ذلك أن العثمانيين تمكنوا في العام 1517 من السيطرة على القاهرة ولفترة طويلة من الزمن. إذاً، فإن عالم «الزيني بركات» هو عالم دولة المماليك، كما هي حال عالم الظاهر بيبرس. أما محور رواية جمال الغيطاني فإنه يبدأ مع سقوط المدعو علي بن أبي الغول، الداعية للنظام الحاكم، والذي كانت عمامته الضخمة تشي دائماً بمكانته. أما سقوط هذا الطاغية الذي جعل جهاز المخابرات حاكماً رئيسياً في البلاد، وأثرى على ظهر الفقراء، فقد أعلن من قبل المنادين الذين راحوا يتوجهون بالحديث إلى «أهل مصر الطيبين» قائلين لهم أن الطاغية انتهى... فما كان من أهل مصر إلا أن عبّروا عن فرحهم بقوة.

ولكن بعد ذلك، كان السؤال المقلق: من سيحل محله في وظيفته المخابراتية التي تماثل وزارة الداخلية؟

لن يكون البديل قاضياً أو سيداً كبيراً، بل ستسند المهمة إلى المدعو بركات بن موسى الذي لقب، للمناسبة، بالزيني «وكلف من قبل السلطات العليا بالرقابة على الناس ومكارم الأخلاق، وكذلك بالسن على العدالة وحسن التجارة». سعيد، وهو شخصية أساسية في الرواية وطالب مستقيم، يأمل من الزيني بركات خيراً، وخصوصاً أن أول ما فعله هذا الأخير كان حقاً لمصلحة الفقراء والبائسين، فهو عاقب مغتصباً، وهاجم الأمراء الذين يحتكرون تجارة الملح والخيار، ما إن وصل إلى السلطة. غير أن زكريا، مساعد علي ابن الغول، ورئيس البوليس السري الذي بقي في منصبه بعد سقوط سيده، لا يكف عن إبداء قلقه، ذلك أن الزيني بركات يمثل خطراً عليه وعلى شبكته المؤلفة من ألوف المخبرين والجواسيس. ورغم هذا كان على زكريا أن يطمئن بسرعة. فالزيني بركات أبقاه في منصبه... بل حبّب الشعب به! لماذا؟ لأن بركات استند في عمله إلى وسائل لم يسبقه إليها أحد: جعل لنفسه شبكة خاصة به من المنادين الداعين إلى أهمية السيطرة على الإعلام. وهو لم يتردد، حين تدعو الحاجة، عن جمع الشعب في لقاء في المسجد، وعن ترتيب أعمال سوء يحدث أن يصل هو أو زكريا لمنع حدوثها في اللحظة المناسبة... وسط تصفيق الشعب وتهليله. وفي الوقت نفسه، ها هو الزيني بركات يخترع أعمال التعذيب تمارس في سجون نموذجية. كما كان هو من ابتكر بطاقات الهوية وتجميع البطاقات والاستمارات المليئة بالمعلومات عن الناس جميعاً. ثم، ها هو ذات لحظة، ينظم مؤتمراً عالمياً لقادة أجهزة الشرطة والمخابرات، يتم خلاله تبادل المعلومات المفيدة للجميع!

من الواضح، أن هذه الرواية في الوقت نفسه الذي ترسم فيه صورة أخاذة وطريفة للقاهرة آخر أزمان المماليك (عبر رصد يقوم به رحالة من البندقية يزور مصر في ذلك الزمن ويدوّن ملاحظاته في دفاتره)، إنما تشير بالأصابع اليمنى إلى الأنظمة الحاكمة في زمننا الراهن. ذلك أن الزيني بركات، ووفق الغيطاني هو رجل «كان يمكنه أن يولد في زمن لاحق، في زمن يجد فيه في حوزته وتحت تصرفه أدوات كان يحلم بها، وأجهزة شديدة الحداثة والتعقيد تساعده في مهنته ومهمته». وهو بسبب نجاحه في تلك المهمة، ما إن دخل العثمانيون ليحكموا مصر بعد سقوط المماليك، حتى أعادوا تثبيته في وظيفته رئيساً للحسبة. وهل كان في وسعهم، يا ترى، أن يعثروا على من هو أفضل منه لهكذا وظيفة؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)