الحديث ذو شجون لزكي مبارك زكي مبارك 1898-1952

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٣١ مارس/ آذار ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«الحديث ذو شجون» لزكي مبارك : يوم كان الكبار موسوعيين ومشاكسين


على رغم أنه ترك كتباً كثيرة جعلت له مكانته الأدبية والفكرية الكبيرة في الحياة الثقافية المصرية والعربية، لم يترك الدكتور زكي مبارك كتاباً عنوانه «الحديث ذو شجون» ومع هذا ثمة كتاب يحمل هذا العنوان يعتبر منذ سنوات طويلة، أشهر كتب هذا المفكر المصري البارز. والحقيقة أن الكتاب الذي يحمل هذا العنوان هو مجموعة مقالات لمبارك جمعتها ابنته كريمة بعد رحيله، إنطلاقاً من زاويته الصحافية التي كان ينشرها بانتظام في مجلة «الرسالة» وجريدة «البلاغ»، أحياناً تحت هذا العنوان نفسه، وأحياناً تحت عناوين أخرى. وتقول كريمة مبارك أن هذا المجلد، على ضخامته (نحو 540 صفحة من القطع الكبير) لا يضم سوى قلة من النصوص التي كان مبارك ينشرها أسبوعياً طوال السنوات السبع الأخيرة من حياته والتي مارس فيها هذا النوع من الكتابة. والحقيقة أن القارئ إن اكتفى بقراءة هذا الكتاب من نتاج صاحب «ليلى المريضة في العراق» لكفاه هذا للتعرف على فكر نيّر وثقافة رفيعة وإلمام بشؤون العالم. بيد أن هذا لم يكن غريباً على ذلك الجيل من الكتّاب العرب الذين كانت الموسوعية تشكل عماد فكرهم وكتاباتهم. ففي الزمن الذي عاشه مبارك، وهو مرحلة الليبرالية العربية التي كانت تغتذي من التمازج الحضاري ومدونات الفكر التنويري من دون التخلي عن أجمل ما في الحضارة العربية، في ذلك الزمن كان الكاتب يكتب للناس ويعتبر كل نصّ معركة معرفية تخاض، ومهمة رسولية لا بد من القيام بها. كانوا يرون أن تلك هي مساهمة المثقف في بناء المجتمعات وثقافتها.

في هذا السياق كان زكي مبارك من الغائصين حتى النخاع. وحسبنا أن نقلّب اليوم في «الحديث ذو شجون» حتى ندرك هذا. حسبنا أن نقرأ لنرى كيف يحوّل الكاتب أقل حدث يقرأ عنه أو يُعرّف به الى قضية فكرية، وكيف كان الخوض في الشأن السياسي يتم بأناقة وطرافة، وكيف كانت السجالات الفكرية مادة يراد منها أن تشكل غنى للقارئ كما للكاتب. فمثلا نقرأ في مقال عنوانه «امتحان جديد»: «ومن المحنة جاء الامتحان، كما جاء الابتلاء من البلاء. ولقد امتحنت مصر في هذه الأيام بضروب من الخوف والجوع بسبب الغارات الجوية، فما الذي أعددناه لنخرج من هذه المحنة بسلام؟ السياسة الرسمية للسياسيين، أما السياسة القومية فملقاة على عواتقنا، إن كنا أهلاً للظفر بثقة الوطن الغالي، فما واجبنا اليوم وقد جدت شؤون لا يباح معها لعب ولا مزاح؟». وتحت عنوان «العمر الضائع» يقول الكاتب إن هذا العمر «هو عمري وأعمار أكثر الأدباء في الشرق، فأعمارنا تضيع بين المداراة والرياء ومن أجل هذا يقلّ في أدبنا ذلك الجوهر النفسي: الصراحة والصدق...». وتحت عنوان «سعد زغلول خطيباً» يكتب: «كان يهمني من عهد بعيد أن أدرس العصر الذي أعيش فيه دراسة صحيحة وأن أزن المواهب عند من ألاقيهم من أهل الفكر والرأي والبيان، وقد يتفق أحياناً أن أشغل نفسي بدراسة الوجوه والملامح وربما توغلت فدرست الصلات المجهولة بين ما يظهر من الناس وما يضمرون، فإن رأى بعض القراء خطأً في بعض ما أصدره من الأحكام الأدبية على أهل هذا الجيل، فلا يرجع ذلك الخطأ الى المسارعة في حكم بلا روية، وإنما يرجع الى أني قد لا أوفق الى الصواب مع الحرص الشديد على النظر والتدقيق...»

ثلاثة امور اساسية ميزت زكي مبارك الذي كان يحب ان يطلق عليه الناس لقب «الدكاترة»: اولها طبعه الحاد ومشاكسته الدائمة، اللذان قاداه للاصطدام بمعظم المفكرين والأدباء في عصره وجعلاه يشعر على الدوام بأنه عرضة لـ «مؤامرة» محبوكة الأطراف يبرع في نسجها ضده كل الناس في آن، وثانيها علمه الغزير وثقافته الموسوعية التي جعلته ينهل من كل المصادر ويكتب في العديد من المجالات، وثالثها ارتباطه لفترة قصيرة من حياته بالعراق، فكان بذلك واحداً من قلّة من مفكرين مصريين اهتموا عملياً في زمنه بأقطار عربية اخرى، اهتماماً لا علاقة له بالسياحة التي كانت تشكّل مركز الثقل في علاقة طه حسين او عباس محمود العقاد بلبنان، او بالتعاطف الإنساني الذي شكلّ، مثلاً، علاقة احمد شوقي بدمشق وجعله يهاجم الفرنسيين في قصائده لضربهم لها. ارتباط زكي مبارك بالعراق كان من نوع الارتباط المصري اللاحق بالبلدان العربية: ارتباطاً عضوياً، أنتج في حالة زكي مبارك اربعة كتب والعديد من الدراسات انطلاقاً من العام الوحيد الذي قضاه في ذلك البلد منتدباً من قبل وزارة المعارف للتدريس فيه.

وربما يصحّ ان نقول إن زكي مبارك في الأمور الثلاثة معاً، انما كان ينطلق من الرغبة في الاختلاف ومن نزعة المشاكسة التي طبعته هو الذي يقول عن مولده: «في صبيحة يوم الخامس من 1 آب (اغسطس) سنة 1891 ولدتني امي، وفي اليوم نفسه وضع أبي نقبة الساقية فقال الناس: لقد اغتنى عبدالسلام مبارك» لكن الوالد في الحقيقة «اخبرني انه لم يفرح بميلادي، فقد كان ابناؤه الذين سبقوني يموتون وهم في عمر الورود فيحزن حزن الثاكلين، وكان يخشى ان أموت انا ايضاً فيعاوده ألم الثكل من جديد». غير ان زكي مبارك لم يمت صغيراً، بالطبع، بل ظل على قيد الحياة اكثر من ستين عاماً، هو الذي رحل عام 1952، وكان قد أضحى علماً من اعلام الفكر في مصر والعالم العربي، بفضل شخصيته الغنية ونقده اللاذع وعلمه الغزير، ولكن بخاصة، بفضل الكتب التي ألفها او حققها، وإلى حدّ ما بفضل دواوينه الشعرية.

وزكي مبارك الذي درس، بداية، في كتاّب القرية، عاد وتلقى دراساته العليا في الأزهر قبل ان يكتشف عقم ذلك كله فالتحق بالجامعة ثم توجه الى السوربون حيث استكمل دراساته العليا، حيث نال شهادة الدكتوراه الأولى في عام 1924 عن رسالة حول «الأخلاق عند الغزالي» ثم اشفعها بعد ذلك بسبعة اعوام برسالة قيمة باللغة الفرنسية حول «النثر الفني في القرن الرابع» فكانت الدكتوراه الثانية، اما الثالثة فهي تلك التي حصّلها بدرجة الشرف في عام 1937 وكانت عن رسالة حول «التصوف الإسلامي». وهذه الدكتوراهات الثلاث هي التي جعلت مبارك يلقب على الدوام بـ «الدكاترة» ويعتبر انه موضع حسد وغيرة الآخرين وسبب تآمرهم عليه.

والحال اننا في كل ما كتبه مبارك نلمح ولو بين السطور آثار ايمانه بوجود تلك المؤامرة. ولا ننسى هنا كيف ان ابنته كريمة التي عملت طويلاً على الاهتمام بكتبه وحفظ ذكراه، كتبت بعد رحيل ابيها بعقد ونصف العقد من السنين مقالاً شهيراً عنوانه «هل هناك مؤامرة على زكي مبارك؟» تقول فيها ان ثمة حقاً مؤامرة لطمس ذكراه بعد رحيله!

لقد اهتم زكي مبارك بالتراث الأدبي العربي، واهتم بالفكر الديني وبالتصوف والنهضة المصرية، والفلسفة الأخلاقية، واهتم خاصة بالنقد الذي كانت له فيه مذاهب وصولات قادته الى معظم المعارك التي خاضها ولا سيما مع احمد امين الذي خصّه بكتاب صار واحداً من اشهر كتبه وهو «جناية احمد امين على الأدب العربي». ودرس زكي مبارك المدائح النبوية، واهتم بالموازنة بين الشعراء، وكتب عن ذكرياته الباريسية ومن وحي بغداد، وحلل اشعار عمر بن ابي ربيعة وحياته وغرامياته. كذلك كان شاعراً مجدداً، يتجلى ذلك في بعض اجمل قصائد دواوينه التي عنونها «ديوان زكي مبارك»، «ألحان الخلود»، «أطياف الخيال»، «قصائد لها تاريخ» و «أحلام الحب»، هذا عدا الكتب التي حققها، والكتب التي أعدتها وقدمتها ابنته كريمة زكي مبارك بعد رحيله، ومن بينها كتاب عن احمد شوقي وآخر عن حافظ ابراهيم وثالث عن الفكر التربوي لدى زكي نجيب محمود.

طوال حياته التي امتدت نحو اربعة عقود من السنين، حيث نعلم انه بدأ الكتابة والنشر منذ كان في العشرين، كان زكي مبارك شعلة لا تهدأ وقلماً مُسنّاً كالرمح، وحسبنا اليوم ان نقرأ مقالاته التي جمعها في «الحديث ذو شجون» حتى نقف مندهشين امام اسلوب عاصف وسخرية لاذعة، وغضب بنّاء على كل ما كان زكي مبارك يراه سيئاً وفاسداً في حياة الأمة وفي حياة رجالها. ويبقى السؤال: من اين كان يأتيه كل ذلك الغضب وكل تلك المهارة؟ سؤال ما كان في امكان احد غيره ان يجيب عنه على أية حال.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


زكي مبارك على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)