الجاسوسة، باولو كويلو (البرازيل)، رواية ترجمة رنا الصيفي - شركة المطبوعات للتوزيع والنشر

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ١٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٦
جريدة الحياة
عبده وازن


الراقصة «الجاسوسة» فتنت الفرنسيين والألمان خلال الحرب


عندما يطالعك اسم ماتا هاري تتذكر للفور الراقصة الهولندية الشهيرة التي وصفت بـ «الجاسوسة» و»المومس» والتي تمّ اعدامها رمياً بالرصاص في مدينة فنسين الفرنسية في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1917 خلال الحرب العالمية الأولى. هذه «الجاسوسة» كُتب عنها الكثير من المؤلفات التاريخية والتوثيقية وانتقلت شخصيتها الفاتنة إلى السينما والمسرح، وقد أدت دورها ممثلات كبيرات مثل غريتا غاربو وجانّ مورو وسيلفيا كريستل. ويقال إن كتاباً أو ملفاً في مجلة كان يصدر عنها كل عام في فترة ما بين الحربين. وعلى رغم الأضواء الساطعة التي ألقيت عليها وعلى سيرتها والتي لم تدع زاوية معتمة في حياتها، يظل الغموض يلف هذه السيدة الغريبة الأطوار والملغزة بعد مضي نحو مئة عام على إعدامها، والتي لم تتمكن المحاكم والتحقيقات من ان تلحظ دليلاً حسياً او ملموساً يدينها صراحة بتهمة التجسس.

الروائي البرازيلي العالمي باولو كويلو استهوته شخصية ماتا هاري فقرر ان يكتب عنها رواية عنوانها «الجاسوسة» (صدرت ترجمتها العربية بقلم رنا الصيفي عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي تملك حقوق نشر اعمال كويلو كاملة بالعربية) منطلقاً من الوثائق الهائلة التي تتناولها والتي تضمها الكتب والتحقيقات الصحافية. والخطوة الأولى التي نجح في انجازها تمثلت في تلبسه هذه الشخصية وجعلها هي الراوية التي تسرد سيرتها من خلال رسالة طويلة تخيل أنها كتبتها في زنزانتها الرقم 12 في سجن سان لازار للنساء في باريس الذي قبعت فيه والذي تديره راهبات. لكنّ كويلو يستهل روايته بمشهد اقتيادها من السجن الى حقل الإعدام بعدما رُفض طلب الاسترحام الذي تقدمت به الى رئيس الجمهورية. وقبل اقتيادها سلمت محاميها رسالتها الطويلة التي تضم سيرتها كما روتها، ومظروفين فيهما قصاصات صحافية وقالت: «انا جاهزة». وأمام فرقة الرماية وقفت بشجاعة ورفضت ان تُقيد يداها وأن تُعصب عيناها، وشخصت الى الجنود ببنادقهم المرفوعة من غير ان تظهر على وجهها سمات خوف او اضطراب.

الكاتب والبطلة

ينتقل القارئ من ثم الى السيرة الذاتية التي ترويها ماتا هاري في الرسالة او التي يرويها بالأحرى كويلو على لسان بطلته. وفي هذه اللعبة يسمح الروائي لنفسه ان يعيد كتابة قصة هذه الجاسوسة مضيفاً الى سيرتها ما سمحت له مخيلته الواسعة من تصور وقائع وأحداث وحتى شخصيات، وحاذفاً في الحين نفسه وقائع وأحداثاً تناقلها كتّاب سيرتها وهي حقيقية ومثبتة تاريخياً. انها ماتا هاري ولكن كما يتصورها صاحب «الكيميائي». لم يخنها كل الخيانة ولكن لم يكن وفياً لها كل الوفاء، حتى ليمكن القول انه خلق امرأة خاصة تدعى ماتا هاري كويلو. وهذا يتبين بسهولة اذا تمت المقارنة بين ماتا كشخصية تاريخية وماتا كشخصية روائية. والقارئ سينحاز حتماً الى ماتا الروائية ولو سجل بضعة مآخذ على كويلو الذي ارخى على هذه الشخصية نظراته ورؤاه. وقد سعى منذ الصفحات الأولى الى جعلها بمثابة البطلة الضحية التي واجهت قدرها ببأس وقوة وصنعت اسطورتها بنفسها، متحدية الأعراف والتقاليد ومتحررة من وطأة الأخلاق التي كانت سائدة حينذاك. ومع ان كويلو نقل على لسانها قولها القاطع أمام المحكمة : «أنا عاهرة نعم، جاسوسة أبداً»، فهو آثر أن يسميها «الجاسوسة»، لكنه لم يتلكأ في اضفاء ملامح البراءة عليها جاعلاً منها في احيان امرأة حكيمة تنطق بالعبر والأمثال وتقرأ سفر نشيد الأناشيد، هي المومس التي خبرت الحب الشهوي مجاهرة حيناً تلو حين بنزعة وجودية او روحية. فهي تقول على سبيل المثل: «لم يوجد الله الخطيئة، نحن من أوجدها، عندما نحاول تحويل ما كان محتماً الى شيء ذاتي. كففنا عن رؤية الكل لرؤية جزء فحسب، وذاك الجزء محمل بالذنوب والأحكام، والخير مقابل الشر، وكل طرف يعتقد بأنه المحق». طبعاً هذا كلام كويلو المبهور بالحكمة، وليس كلام ماتا هاري المومس، مهما غدت مثقفة. وهذا أيضاً مما يؤخذ دوماً على روايات كويلو الذي يفرض رؤيته او وجهة نظره على شخصياته. ولم يوفر كويلو ام ماتا هاري من الحكمة فهي قبل موتها تعطي ابنتها بذور زهرة التوليب التي ترمز الى القدر وتطلب منها ان تخبئها وتتعظ بها.

سيرة موجزة

تسرد ماتا هاري سيرتها موجزة وهي اصلاً معروفة: ولدت في لوواردن، احدى قرى هولندا النائية في 7 آب (اغسطس) 1876، اسمها الحقيقي مارغريتا زيلّيه، أفلس والدها ثم توفيت والدتها فانتقلت الى مدينة لايدن والتحقت بإحدى مدارسها. في السادسة عشرة من عمرها اغتصبها مدير المدرسة بعدما مددها على طاولة المقعد الدراسي فترك هذا الاغتصاب جرحاً مفتوحاً في جسدها ووجدانها. تزوجت من دون حب ضابطاً هولندياً يدعى رودولف ماكلاود يقيم في اندونيسيا في سياق مهمته العسكرية، فتعيش معه حياة قاسية، وكان ينعتها بالساقطة بعدما اكتشف انها ليست عذراء. وكان يعيد اغتصابها ممدداً اياها على الطاولة ومجبراً اياها على ارتداء الثوب المدرسي. كان يخونها مع النسوة الإندونيسيات وسواهن ويخشى دوماً ان تخونه هي فهو لا يثق بها بتاتاً. لكنه انجب منها فتاة ثم ولداً سممته مربيته فمات فقتل الخدام المربية القاتلة.

«الشمس المشرقة»

غير ان ماتا هاري لن تستسلم لهذه الحياة القاسية والباردة والمملة هي التي كانت تعلم ان في داخلها امرأة طموحاً وحالمة، تهوى الرقص والفروسية اللذين تعلمتهما منذ الفتوة. وتقرر بعد انتحار زوجة احد اصدقاء زوجها اندرياس مطلقة النار على نفسها في احدى السهرات، ان تعود الى هولندا. فيرضخ زوجها للأمر وما ان تبلغ هولندا حتى تتحرر من زواجها وتبدأ حياتها الحرة مقررة الانتقال الى باريس للعيش هناك وتحقيق احلامها في مدينة النور والفن. تبدل اسمها عشية سفرها الى باريس فيصبح ماتا هاري وهو اسم اندونيسي يعني الشمس المشرقة. في باريس تبدأ ماتا هاري حياة ملؤها الرقص والجنس والعشق واللهو والكذب فتمسي امرأة اخرى. تدعي انها تجيد الرقص الكلاسيكي الشرقي اي رقص البالية المطعم بالموسيقى والحركات الآسيوية او الإندونيسية، وتنطلق على المسارح وتحصد شهرة كبيرة وتصبح نجمة باريس، وتؤدي رقصات اباحية تجرؤ خلالها على التعري التام فتنتشر صورها في الصحف ووجهها على البطاقات البريدية...

مال وعشاق ثم الوقوع في حبائل رجال الدولة والاستخبارات حتى تصبح من غير ان تدري لعبة في ايدي الأجهزة الفرنسية والألمانية في اوج الحرب العالمية والمواجهات العسكرية. وما ساهم في اطلاق صفة الجاسوسة عليها انتقالها الى برلين ثم عودتها الى باريس... وهي اصلاً كانت تنقلت بين مدن اوروبا كافة، وفي فينا التقت سيغموند فرويد الذي اخذت عنه فكرة ان اخطاء البشر إنما ترجع الى آبائهم. وفي باريس التقت ايضاً الرسام بابلو بيكاسو الذي حاول اغواءها والرسام امادو مودلياني.

في الرسالة التي بدت اشبه بمذكرات او يوميات تعترف ماتا انها لم تكن يوماً بريئة وأنها شاءت ان تكون متحررة في عالم يحكمه الذكور وأصحاب المال والنفوذ، وأنها صبت علانية الى المال والشهرة. وتقول: « نعم كنت عاهرة. كنت أقبل العطايا والمجوهرات مقابل العطف واللذة. نعم كنت كاذبة بالإكراه». وتروي كيف أن الألمان، عندما ظنوا انهم اقنعوها على التعاون معهم استخباراتياً من قلب باريس، اطلقوا عليها اسماً سرياً هو «ه.21»، لكنها سرعان ما قصدت السفارة الفرنسية في برلين لتطلع المسؤولين على الأمر وتعلن انها لن تكون جاسوسة لمصلحة ألمانيا. لكن الأمور تجري عكس ما تصورت فإذا بها تُتهم بأنها عميلة مزدوجة للألمان والفرنسيين في وقت واحد. وما ان تعود الى باريس حتى يلقى القبض عليها وتحاكم على رغم اصرارها على براءتها ويصدر الحكم بإعدامها رمياً بالرصاص.

لم يتقيد باولو كويلو بوقائع سيرة ماتا هاري المرأة الرهيبة، كاملة ولا بالحوادث التي تخللت حياتها، بل شاءها شخصية روائية تؤدي دور الراوية في معظم فصول الرواية بينما تولى هو بنفسه سرد بقية التفاصيل. وبدا كويلو سباقاً فعلاً في تحويره شخصية ماتا هاري انتصاراً للسرد والتخييل الروائي، ونجح فعلاً في رسم ملامح اخرى لهذه الراقصة التي دخلت التاريخ من باب التجسس ولكن من غير ان يشفي غليل القارئ التائق الى التعرف الى ماتا هاري الجاسوسة الحقيقية والتاريخية.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة الحياة


الخميس، ١٧ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٦
جريدة الحياة
بيروت - «الحياة»


حوار تنفرد «الحياة» بنشره... باولو كويلو: تعلمت الكثير من ماتا هاري


أجرت الوكالة الخاصة بالروائي البرازيلي العالمي باولو كويلو بالاتفاق مع مؤسسة كنوبف البريطانية، حواراً قصيراً مع كويلو لمناسبة صدور روايته الجديدة «الجاسوسة» في لغات عالمية عدة ومنها العربية، وقد خصت الوكالة عبر شركة المطبوعات للتوزيع والنشر «الحياة» بهذا الحوار غير المنشور لتكون المنبر العربي الوحيد الذي يقدمه إلى القراء العرب. أما ترجمة الحوار عن الإنكليزية فتولتها «الحياة».

> من كانت ماتا هاري، ولماذا اخترتها موضوعاً لروايتك الجديدة؟

 كانت ماتا هاري من أيقونات جيل الهيبيز - فمثّلت الفتاة السيّئة، والمختلفة، والغريبة، التي أكثرت من ارتداء الفساتين الفاخرة - وقد أذهلتنا جميعاً. وبعد أربعين عاماً، كنت أتناول العشاء في مدينة جنيف السويسرية مع محاميّ، وذكر أمامي عدداً من الملفّات، التي تناولت أشخاصاً أبرياء حُكم عليهم بالإعدام خلال الحرب العالميّة الأولى، ولم نعلم بهم إلا الآن بعد أن رفعت السرّية عن عدد كبير من مستندات الحرب. وشكّلت ماتا هاري أحد الأمثلة التي أعطاني إياها، ولكن نظراً إلى أنّها كانت دوماً تثير فضولي، ما لبثتُ أن قمت ببحث سريع عنها على الإنترنت ما إن عدتُ إلى المنزل. وأوصلني بحثي إلى عدد كبير من هذه الوثائق، وإلى المزيد والمزيد من المعلومات عنها. وفي اليوم التالي، اشتريت بعض الكتب وأرغمت نفسي طوال نهاية الأسبوع على قراءة كلّ ما أمكنني إيجاده عن ماتا هاري. ولم أعرف بأنّني كنت منكبّاً نوعاً ما على بحث بهدف تأليف كتاب، ولم أدرك ذلك إلا عندما قرّرت أن أمرّن خيالي وأن أضع نفسي مكانها.

> كيف قمت ببحث عن حياتها وعن تلك الحقبة؟ ما أكثر ما فاجأك في حياتها؟

 إنّ أكثر ما فاجأني هو الطريقة التي نجحت فيها امرأة تمّ تعنيفها حتّى سنّ العشرين، في تخطّي الوضع الذي عاشته والتحوّل إلى ما أصبحت عليه. أمّا الزمن الجميل في باريس، فكان عبارة عن حقبة كان «كل شيء فيها ممكناً». وكم حيّرتني هذه الحقبة، فعملت كثيراً لأجعل الكتاب يتمحور حول الشخصيّة الرئيسة فيه. في العادة، يميل المؤلف إلى الإكثار من الوصف. أمّا أنا، فأعطيت فكرة عن حقبة الرواية، وحاولت وضع القارئ ضمن سياقها من دون أن أُغرِقه بالمعلومات عنها.

> في نهاية الكتاب، تقـول إنّك مـلزم بعـــدد كبيـــر مــن الوقــائع. أين حــوّرت مسارك عن السجل التاريخي، ولماذا؟

 وقائع الكتاب صحيحة، والتسلسل التاريخي فيه صحيح، لكنّي وضعت نفسي مكان شخص آخر. ويصعب عليّ القول أين حوّرت مساري، ربّما في تصوّري لآخر رسالة كتبتها ماتا هاري. لكنّي أعتقد بأنّني كنت قريباً جدّاً ممّا فكّرت فيه. فمنذ نحو شهرين، نشر متحف هولندي رسائل جديدة لماتا هاري، كتبتها عندما كانت في هولندا، قبل أن تتوجّه إلى جزيرة جاوة. وقد اعتبر أحد مراجعي الرواية أنّ الأمر بدا وكأنني كنت «أوجّهها» في الكتابة.

> لماذا قرّرت منح روايتك صيغة الرسائل؟

 عندما تكتب رسالة، تمنحك الفرصة لوصف حياتك لشخص يراها من الخارج.

> ما الذي شعرت به عندما كتبت من وجهة نظر ماتا هاري؟

 أصبحت رفيقتي ليلاً ونهاراً، بينما كنت أقرأ عن الحقبة التي عاشت فيها. وبدأت أشعر كيف كانت تبرر تصرّفاتها، بالاستناد إلى ما كانت عليه.

> كانت ماتا هاري مشهورة نسبياً، وذاع صيتها كامرأة ذات فتنة لا تقاوَم. وهي صعدت إلى الشهرة باعتمادها في آن واحد على الموهبة والأكاذيب. وبالتالي، أيّ دروس نتعلّمها من هذه المرأة المعقّدة؟

 أولاً إنّ كلّ حلم يقابله ثمن، وثانياً إنّك إن تجرّأت على أن تكون مختلفاً، عليــك أن تكـون مستعدّاً للمهاجمة، وثالثاً أنّك حتّى في مواجهة العالم الذكوري العدائي، ستجد طريقة للتحايل عليه.

> ما الذي أدّى إلى إعدامها رمياً بالرصاص؟

 لا أراهن يوماً على كلمة «لو»، أو على ما أمكن أن يكون أو لا يكون. لقد حقَقت مصيرها، وهذا هو المهم.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة التاسعة والعشرون العدد 9149 الإثنين 9 نيسان (ابريل) 2018 - 23 رجب 1439 هـ
زيد خلدون جميل - كاتب عراقي


ماتا هاري… جاسوسة أم ضحية ؟


تمثل الهولندية «ماتا هاري» علامة فارقة في الإعلام العالمي وتاريخ الجاسوسية، فاسمها يرمز دائما إلى الحسناء التي تتلاعب بالرجال بالإغراء للحصول على معلومات سرية لجهاز مخابرات أجنبي. ولكن هل كانت هذه الفتاة جاسوسة فعلا أم إنها كانت ضحية ظروف دولية لا قدرة لها على مواجهتها.

البداية

ولدت « ماركريتا زيلي» (ماتا هاري لاحقا) في هولندا عام 1876 ولم تكن حياتها على ما يرام حتى ظهرت عام 1903 في باريس. وهناك واجهت الهولندية ذات الشعر الأسود والطويلة القامة (1.78 م) مشكلة كونها وحيدة ومفلسة، فعملت في سيرك وموديل للرسامين وأعمال أخرى. واعتقد البعض أنها من أصول أوروبية ـ آسيوية لكونها سوداء الشعر وتميل نوعا ما إلى السمرة ولم يزعجها ذلك بل اعتقدت أنها ازدادت إثارة بهذا. إلا أن كل شيء تغير عندما التقت برجل محلي أقنعها باختلاق شخصية «ماتا هاري»، راقصة التعري الاندونيسية، والادعاء بأنها أميرة من جنوب شرق آسيا واختلقت قصة مفادها أنها سبق وأن عملت راقصة في أحد المعابد الهندوسية. ويعني الاسم باللغة الاندونيسية «عين النهار»، أي الشمس. وكان عرض «ماتا هاري» الأول عام 1905 وفي أحد متاحف باريس، ولكنه لم يكن عرضا لأي رقص حقيقي لأنها لم تكن قادرة على الرقص أو الغناء الحقيقي ولكنها خلعت أغلب ملابسها. وحسب قوانين تلك الفترة كان ما قامت به مخالفة صريحة للقانون وجديرة بزجها في السجن، إلا أن «ماتا هاري» كانت تقوم قبل كل رقصة بشرح حول تاريخ الرقصة ورموزها الدينية. وكل هذا كان مختلقا ولكنه وفر قناعا ثقافيا مزورا لما كان في الواقع عرضا فاضحا. وكان الجمهور من النخبة العليا في المجتمع الباريسي وحقق العرض نجاحا باهرا وأصبح مدير المتحف من عشاقها. وبدأت شهرة «ماتا هاري» بالانطلاق، فقد قامت بعروض مماثلة في جميع العواصم الأوروبية البارزة وأمام أبرز رجال عهدها مثل ولي عهد ألمانيا ووزير الدفاع الفرنسي، وكانت كذلك عشيقة الكثيرين منهم، فقد فضلت أصحاب السطوة والثروة والذين مدوها بالمال. ولذلك فقد عاشت في بحبوحة، ولكنها كانت مبذرة ولم تهتم بالادخار وكأن الحياة الرغدة ستدوم إلى الأبد.

بعد بروز نجم «ماتا هاري» أخذ الكثير من الفتيات في تقليدها في عروضها بشكل أكثر جرأة تدريجيا مع اختلاق الأصول الغريبة لهم مما أثار غضبها وقامت بانتقادهم. وحتى بالنسبة لـ «ماتا هاري» نفسها فبعد سنوات من النجومية فإنها أخذت تعاني من التقدم في السن والزيادة في الوزن مما أدى إلى قلة الطلب على رقصاتها ابتداء من عام 1912. وكان آخر عرض لها عام 1915 وأخذ عدد عشاقها يقل وانعكس هذا على حالتها المالية.

الحرب العالمية الأولى

تغيرت الأحوال في أوروبا عند اندلاع الحرب العالمية الأولى وكانت «ماتا هاري» تتنقل بين العواصم الأوروبية مما أثار انتباه أجهزة مخابرات الدول المتحاربة. وكان أول من اتصل بها هوالقنصل الألماني الفخري في أمستردام (هولندا) عارضا عليها مبلغ 20,000 فرنك للتجسس لصالح ألمانيا. أخذت «ماتا هاري» المبلغ ألا أن المؤرخين يجمعون على أنها لم تزود الألمان بأي معلومات من الممكن اعتبارها سرية بأي شكل كان. وحسب أحد المصادر فإن «ماتا هاري» كانت تعاني ضائقة مالية، كما انها اعتبرت هذا المبلغ تعويضا عن ملابس ونقود تابعة لها كان الألمان قد صادروها سابقا.

وفي تلك الفترة أحبت «ماتا هاري» طيارا روسيا في الخامسة والعشرين من عمره كان ضمن خمسين الف روسي يقاتلون إلى جانب فرنسا ضد ألمانيا، وكان حبيبها قد تعرض لسلاح كيميائي ألماني سبب له فقدان بصره في عينه اليسرى. وذهبت «ماتا هاري» إلى فرنسا في أيلول/سبتمبر عام 1916 للقاء حبيبها والأطمئنان عليه، ولكن كان عليها أولا الحصول على أذن خاص من السلطات الفرنسية للذهاب إلى الجبهة. ولذلك اتصلت بأحد عشاقها للاستفسار عن كيفية الحصول على الإذن اللازم، فنصحها هذا بالذهاب إلى إحدى المؤسسات الحكومية والتي كانت تضم أيضا قسم مكافحة التجسس في فرنسا دون أن تعلم هي بذلك. وفي تلك المؤسسة قابلت «جورج لادو»، رئيس قسم مكافحة التجسس، والذي كان قد بدأ في مراقبتها منذ عام، واتفقا على أن تحصل هي على مبلغ مليون فرنك مقابل التجسس على الألمان وأعطاها الإذن اللازم لذلك. ولكنه لم يعطها سوى الوعد بالمال ولم يزودها بأي معلومات حول كيفية الأتصال به أو أسماء الأشخاص الذين يريدها أن تغويهم أو أي معلومات محددة عليها معرفتها من الألمان. ولكنه طلب منها الذهاب إلى هولندا عن طريق اسبانيا وبريطانيا، فسافرت بعد لقائها بحبيبها. وأرسلت «ماتا هاري» رسائل عدة بالبريد العادي إلى «لادو» طالبة منه دفع مقدمة من المبلغ دون أي جواب. ولكنها لم تصل إلى هولندا لأن السلطات البريطانية منعتها من أكمال الرحلة بعد التحقيق معها، ألا أنهم سمحوا لها بالعودة إلى اسبانيا. وفي اسبانيا تعرفت «ماتا هاري» على الملحق العسكري الألماني في مدريد، ولكن الرجل شك بها فأعطاها معلومات خاطئة، وقامت «ماتا هاري» بإرسال هذه المعلومات إلى «لادو» بالبريد العادي وكذلك عن طريق شخص كلفته بهذه المهمة، وطالبت بتزويدها بالمال ولكن دون رد.

الاعتقال

عادت «ماتا هاري» إلى باريس في الثاني من كانون الثاني / يناير 1917 وحاولت جاهدة لقاء «لادو» وبعد محاولات عدة نجحت في مسعاها إلا أنه أنكر استلامه أي شيء منها. ولم تكن «ماتا هاري» في وضع جيد فقد كانت حاجتها للمال في ازدياد ولم تستلم أي أخبار من حبيبها وخشيت أن يكون قد أصيب مجددا. وفي يوم الثاني عشر من شباط / فبراير ألقي القبض عليها في غرفة الفندق الذي كانت تقطن فيه وأخذت الشرطة الفرنسية عند ذاك كل مقتنياتها. وكان رئيس التحقيق شخصا عرف بقسوته وكرهه للنساء غير المحتشمات في تصرفاتهن وحقق معها أربع عشرة مرة، وكل ما كانت»ماتا هاري» تستطيع عمله هو الاستعانة بعشيق سابق لها ليعمل محاميا للدفاع عنها، ولكنه كان عديم الخبرة بالمحاكمات العسكرية. وكانت «ماتا هاري» في البداية قلقة إلا أن قلقها تحول إلى فزع، فقد كانت في الحبس الانفرادي وكانت زنزانتها قذرة وبدون صابون وتسكنها الجرذان ولم تكن هناك وسيلة لها للاتصال بالعالم الخارجي، فحتى بالنسبة لمحاميها كان الاتصال به صعبا ومُنِعت عنها الرسائل، ومن ضمنها رسائل حبيبها الروسي. وكل ما اعترفت «ماتا هاري» به كان أخذها لمبلغ 20.000 فرنك من الألمان ولكن لم يكن هناك دليل واحد يثبت أنها أعطت للألمان شيئا مقابل هذا المبلغ.

المحاكمة

بدأت محاكمة «ماتا هاري» يوم الرابع والعشرين من تموز / يوليو1917 في باريس ووجهت إليها ثمانية تهم مبهمة. وتألفت المحكمة من قاضي عسكري وسبعة محلفين عسكريين. ولم يحاول محامي الدفاع دحض الأدلة التي قدمها المدعي العام العسكري بل طلب الرأفة بالمتهمة مما أضعف موقفها وجلب شخصيات مرموقة في الحكومة الفرنسية وشهدوا أن المتهمة لم تحاول أن تأخذ أي معلومات منهم، ولكن ماذا كانت الأدلة؟ لم يقُدم أي دليل في المحكمة حول أي معلومات كانت «ماتا هاري» من المفروض قد قدمتها إلى الألمان. وقام المدعي العام بجلب الشرطي الذي كان مكلفا بمراقبتها والذي شهد بأن المتهمة كانت تحيا حياة غير أخلاقية وخير دليل على ذلك ادعاؤه بأنها كانت مبذرة وكان عشاقها من ذوي النفوذ والمال ومن جنسيات مختلفة. وكان أهم الشهود هو»لادو» (رئيس قسم مكافحة التجسس) والذي ادعى أن المخابرات الفرنسية التقطت مراسلات بين السفارة الألمانية في مدريد وبرلين مفادها أن السفارة قد أعطت مالا إلى عميل سمته «أتش-21» وأعطت بعض التفاصيل عنه والتي قد تنطبق على «ماتا هاري». ولكنه، وفي الوقت نفسه، ناقض كلامه حول بعض تفاصيل هذه الرسائل، ولم يقدم النسخ الأصلية، مدعيا أنها اختفت. ويجمع المؤرخون أن قصة هذه الرسائل كانت مفبركة من قبل «لادو» نفسه. والطريف في الأمر هو وجود احتمال كبير أن الألمان كانوا على علم بأن الفرنسيين كانوا يتنصتون على تلك المراسلات ولذلك فقد كانوا يرسلون ما كانوا يريدون أن يسمعه الفرنسيون، ولم يقدم أي دليل يثبت أن «ماتا هاري» كانت هي ذلك العميل «أتش-21» الذي ذكر في رسائل السفارة الألمانية في مدريد. وأدينت «ماتا هاري» بجميع التهم وحكم عليها بالأعدام. ولم ينفع طلب الحكومة الهولندية من مثيلتها الفرنسية بالعفو عن «ماتا هاري».

العرض الأخير

وفي فجر يوم الخامس عشر من تشرين الأول / أكتوبر 1917 أبلغت «ماتا هاري» بأنها ستعدم بعد ساعة فارتدت الفستان النظيف الوحيد الذي كان لديها واستعدت لمصيرها المحتوم. وأخذت إلى قلعة قريبة حيث كان في انتظارها فريق الإعدام ومن ضمنه أثناعشر جنديا مغربيا والعسكري المسؤول عن الإعدام وكاهن. وعند مثولها أمامهم رفضت أن تربط يداها أو أن يوضع شيء على عينيها ثم قامت بأطلاق قبلة في الهواء للجنود والكاهن. وأطلق الجنود النار لتسقط «ماتا هاري» جثة هامدة. وقال العسكري المسؤول عن الإعدام «يا إلهي هذه السيدة تعرف كيف تموت».

ملاحظات عن المحاكمة

أقر المدعي العام العسكري بعد ذلك بأن الأدلة كانت لا تكفي لإدانة قطة، وأما «لادو» رئيس قسم مكافحة التجسس فقد أدعى أنه سبق وأن أعطى «ماتا هاري» اسم جاسوس للفرنسيين إلا أن الألمان اغتالوه مما دفعه إلى الاعتقاد بأنهم أكتشفوه عن طريق «ماتا هاري»، وهذا يناقض ما قاله سابقا عن شكه فيها منذ البداية، وإلا لماذا أعطاها اسم الجاسوس. وألقي القبض على «لادو» بعد أربعة أيام من الإعدام بتهمة التجسس لصالح الألمان إلا أنه أخلي سبيله لاحقا لعدم ثبوت الأدلة. وذكر أحد المحلفين الذين حاكموها في مذكراته أن «ماتا هاري» قد تسببت في مقتل خمسين الفا من الجنود الفرنسيين بالإضافة إلى الفرنسيين الذين غرقوا نتيجة لطوربيدات الألمان بسبب معلومات زودتها لهم، وهو ادعاء لم يتم أثباته في المحاكمة.

مفارقات

رفضت الحكومة الفرنسية دفع تكاليف الدفن. ولذلك سلم الجثمان إلى كلية الطب في جامعة السوربون لاستعماله في التعليم، ثم سلم إلى متحف بعد فصل الرأس عن الجسد إلا أن الاثنين اختفيا في ظروف غامظة. وقامت الحكومة الفرنسية ببيع مقتنيات «ماتا هاري» في المزاد وصادرت ريع ما بيع منه.
كانت محاكمة «ماتا هاري» الشغل الشاغل للصحافة الفرنسية آنذاك، واختلف المؤرخون حول سبب إدانتها. وهناك من اعتقد أن السبب كان محاولة إلهاء الرأي العام الفرنسي عن المصاعب التي كانت تواجه الجيش الفرنسي في الحرب أو أن الحكومة الفرنسية كانت تبحث عن فرصة لإظهار أنها تلقي القبض على الجواسيس وبذلك فإنها تمنع الآخرين من التجسس أو أظهار أنها تحقق انتصارا أمام الشعب الفرنسي عن طريق ادعائها أنها تكشف الجواسيس وتعاقبهم. وأما المخابرات البريطانية، التي كانت قد حققت مع «ماتا هاري» كذلك، فقد صرحت بأنها لم تعثر على أي شيء قد يدينها.

أنتجت حتى الآن ثمانية أفلام عن «ماتا هاري» وعلى الأقل تسعة كتب وأوبرا واحدة وعرض شهير للباليه بالإضافة إلى عشرات المقالات. وخصص لها جناح في متحف في مدينتها الهولندية. وهي الآن رمز لشخصية الجاسوسة الداهية التي تحصل على ما تريد عن طريق إغواء الرجال.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)