التراجيكوميديا في أدب النكسة

, بقلم محمد بكري


مجلة حبر الإلكترونية


مجلة حبر الإلكترونية
الأربعاء 10 حزيران 2020
وفيقة المصري


التراجيكوميديا في أدب النكسة : سرديات غسان كنفاني وإميل حبيبي أنموذجًا


غسان كنفاني وإميل حبيبي


كانت انتكاسة الكُتّاب العرب جزءًا لا يتجزأ من تداعيات هزيمة حزيران عام 1967، التي اعتبرت نقطة تحوّل بارزة في تاريخ الأدب العربي. ولأن الأدب يُوقف الشريط الزمنيّ عند حدث تاريخي محدد ويشرع في التوغّل في تفاصيله، فقد خلّفت النكسة آثارًا من الكآبة والخيبة في النصوص الأدبية التي كُتبت مباشرةً بعدها، وغلبت عليها نبرة التباكي والحسرة وجَلد الذات العربية. لكن، من جهة أخرى، مثّلت بعض النصوص استفاقة حانقة ونُضجًا عازمًا على تغيير التوجّهات السردية في الأدب العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا. فمثلًا، كانت رواية الشاعر والكاتب الأردني تيسير السبول «أنت منذ اليوم» عام 1968 في طليعة التجربة الروائية الأردنية التي اعتبرها النُّقاد[1] أنموذجًا للسرديات التي كسرت نمط التعبير، وجرّبت البحث عن أفق آخر لتشخيص أسباب الهزيمة وتسليط الضوء على خذلان الأنظمة العربية.

أما في ساحة الأدب الفلسطيني، فقد مثّلت النكسة الباب الذي ولج منه إميل حبيبي وما انفكّ يفتحه ويصفقه في وجوه القُرّاء بأسلوب مبتكر في كل مرة، كما في أولى أعماله؛ «سداسية الأيام الستة وقصص أخرى» عام 1968، ثم رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» عام 1974. بينما كانت هزيمة حزيران بمثابة الثقب الذي فجّر جدران الخزّان[2] عند غسان كنفاني في أعمال مثل «أم سعد» و «عائد إلى حيفا» عام 1969. وعلى الرغم من الاختلافات القائمة بين هذين الكاتبين، ابتداءً من الأسلوب الأدبي وانتهاءً بالتصنيف الذي يجعل حبيبي من فلسطيني الداخل وكنفاني من فلسطيني الشتات، فإنهما في نظري وجهان لقضية واحدة.

تلخّص عملية قراءة نصوص كنفاني وحبيبي ما يبدو عليه الحال العربي الفلسطيني بعد النكسة؛ إذ إن أبرز ما يميزه الازدواجية التي أُنشىء المبنى السردي أساسًا على أنقاضها. فالداخل الفلسطيني والخارج المُهجَّر عنه، الباقي في حيفا والعائد إليها، الباكي على الهزيمة والضاحك الساخر منها، وغيرها من المفارقات والانفصامات التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي المُمزِّق المُشوِّه، لكنها أبت إلا أن تتّحد في سردية تراجيكوميدية[3] مُشوَّهة.

من هنا، لم ترتكز سرديات كنفاني وحبيبي بعد حرب حزيران على ذلك الشرخ الفاصل والمفارقات الناجمة عنه فحسب، بل يمكن القول إن مسعاها إلى تغيير السردية في تناول ذلك الشرخ يُعتبر فعل مقاومة بحدّ ذاته. وعند الحديث عن مفهوم تغيير السردية، فإنني أقصد بذلك محاولات تغيير وقع الهزيمة من خلال ابتكار أساليب سردية مغايرة، وإدراك ضرورة تغيير الرؤية إلى الذات العربية والفلسطينية بعد النكسة بدلًا من الإمعان في جَلدها ولومها.

الضاحك والباكي، والمُبتسم وسطهما

يمهّد إميل حبيبي في مجموعته الأولى «سداسية الأيام الستة» إلى أسلوب تراجيكوميدي مغاير يغدو أكثر تبلورًا في أعماله اللاحقة. تستعرض هذه السداسية مفارقات النكسة من منظور الفلسطيني الذي بقي في أرضه، وعودته إلى الالتحام مع الفلسطيني في أراضي الضفة الغربية بعد حرب حزيران. تأخذ بعض الأبعاد التراجيكوميدية/ المُضحكة المُبكية بالاتّضاح شيئًا فشيئًا في قصص هذه المجموعة، إذ ثمة خيوط خفية تلتفّ حول الأيام/ الأجزاء الستة في النص، وتحاول تغيير سردية الهزيمة وطعمها الباقي طويلًا، من خلال الارتكاز على الضحك والسخرية، وخصوصًا من تلك المفارقات التي لا تفسير لها. تظهر هذه المفارقات في القصة الأولى من السداسية «حين سعد مسعود بابن عمه»، من خلال استناد حبيبي على شخصيات الصغار ومنطقهم البسيط والمُضحك، قالبًا بذلك المرآة الساخرة أمام وجوه الكبار وواقعهم المُبكي. إذ يضع حبيبي القارىء في مأزق تراجيكوميدي في تلك القصة؛ فهل يسعد مع الصغير مسعود لأنه استطاع أن يرى ابن عمه في الضفة الغربية، بعد أن أوغل الاحتلال الإسرائيلي في أراضيها بعد حرب حزيران، أم يحزن لأن احتمالية انسحاب الاحتلال من تلك الأراضي تعني عودته كما كان من قبل «بدون ابن عم».[4]

تتراوح الجزئيات الأخرى من السداسية بين الضحك والبكاء، وبين الفرح بالالتحام ثانية والحزن على هذه العودة غير المكتملة، إلا أنها تؤكد على عبثية القطيعة التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي بين الفلسطينيين بعد النكبة، وتلك الروابط التي لم تمت خلال فترة العشرين عامًا، كما في قصة «وأخيرًا نوّر اللوز».

في آخر أجزاء السداسية «الحب في قلبي» تتداخل عناصر السرد في القصة الأخيرة بفعل الراوي الذي يعثر على رسائل فتاة مقدسية رهينة في سجن الرملة كتبتها على ورق سجائر، فيعمد إلى تبديل أسماء أحبائها حماية لها ولهم، وقد غيّر اسم البنت إلى فيروز نظرًا لجمال وقع الاسم على السامع. تخبر فيروز أمّها في الرسالة الثانية عن الصديقة الحيفاوية التي تحب أغنية فيروز «راجعون، راجعون»: «فلما سألتها: ماذا يحركك في أغنية «راجعون» وأنت لم تنزحي ولم ترجعي بل بقيت في وطنك؟ أجابتنا: وطني؟ إنني أشعر بأنني لاجئة في بلاد غريبة. أنتم تحلمون بالعودة وتعيشون على هذا الحلم. أما أنا فإلى أين أعود؟». يقع الفلسطيني الباقي في أرضه في مأزق مختلف؛ إذ لا يحلم بالعودة إلى الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، بل يحلم بالعودة إلى الحال التي كان عليها قبل أن يحدث كلّ هذا.

لكن في اختيار الراوي ألا يطلعنا على الرسائل كلها وأن ينتقي ما «يحزّ في (نفسه) وما يحزّ في نفوسنا» منها، إشارة إلى تحكّم الراوي بالسردية وتحمّل مسؤولية الحقيقة والخيال فيها.

لكنّ في اختيار الراوي ألا يطلعنا على الرسائل كلها وأن ينتقي ما «يحزّ في (نفسه) وما يحزّ في نفوسنا» منها، إشارة إلى تحكّم الراوي بالسردية وتحمّل مسؤولية الحقيقة والخيال فيها.

وعند حديثنا عن تلك السرديات الفلسطينية بوصفها موروثًا جمعيًا، فإن كل محاولات الإبقاء عليها وإعادة كتابتها وحتى تغيير بعض أجزائها بما لا يضير ويبقي على جوهر الحكاية لا تقارن بمساعي تزييف حقائقها ومحوها تمامًا.

تقول البنت في رسالتها الأخيرة: «ماما الحبيبة: ولكنكم قرأتم هذه الرسالة كما قرأتها في الصحف، لقد نشروها أثناء محاكمة الشرطية اليهودية التي طردوها من وظيفتها وحكموا عليها بسنة حسن سلوك… غير أني متأكدة أن ما نشروه مليء بالتشويهات. إن كل ما ورد في الصحف، على أنه من هذه الرسالة حول «الاتفاق مع الفتاة الحيفاوية على تنظيم خلية سريّة داخل إسرائيل» هو محض تشويه لصداقة بريئة بين فتاتين من شعب واحد. اجتمعتا بعد فراق طويل، تحت سقف واحد، سقف القاووش».

يمثّل ذلك الاجتماع بعد فراق النكبة تحت سقف الحبس، المأزق التراجيكوميدي في عودة بعض الفلسطينيين للالتحام بعد النكسة وفرحتهم التي لم تكتمل ما دام الاحتلال الإسرائيلي قائمًا. وما تلك الرسالة الأخيرة إلا محاولة للتمسك بمفاتيح السردية الفلسطينية، ومنع الاحتلال من تحويرها وتشويهها.

وعلى الرغم من أن الأسلوب التراجيكوميدي يبدو جليًا أكثر عند حبيبي، إلا أن ما ينطوي عليه المفهوم من امتزاج عناصر السخرية والمأساة يبرز في شكل آخر عند كنفاني ونزعته لتغيير رؤيته السردية بعد النكسة. إذ لا يُكثّف كنفاني في رواية «أم سعد» توجّهاته الماركسية ووعيه الطّبقي فحسب، بل يختار أن يغير منظوره ويركّزه على المرأة في وسط الرجال وبنادقهم.[5]

يعتبر البعض أن السخرية نوع من أنواع البكاء الصامت، وفيما تغالب شخصيات كنفاني البكاء بصمت، فإنها تقف بعد ذلك لتسخر من الحال بحنق ووعي حاد بعد الهزيمة. ولأن السخرية هي في حدّ ذاتها تغيير للطريقة التي يختار على أساسها أن يسرد المرء حكايته التراجيدية؛ نرى شخصية أم سعد وقد أدركت الفرق بين الخِيم فتقول: «خيمة عن خيمة تفرق»، فيما يمثل عملية إعادة استخدام العناصر التراجيدية الناجمة عن النكبة بطريقة أخرى، والإصرار على تغيير السردية كفعل مقاومة عند أم سعد؛ المرأة التي تربّي الفدائيين وتدرك أن ما يخرج من خيمتها مختلف عمّا يخرج من خيمة غيرها. بل تقف لتسخر بثقة من كل من يُشكِّك باعتقادها أن الآن هو دور ابنها سعد في التصرّف:

والآن ماذا سيفعل سعد؟ ألم يكن خروجه من السجن أفضل؟ وقفت، ونظرت إليّ واضعة تلك الابتسامة على شفتيها، وقالت: طيبّ! أنت غير محبوس، فماذا تفعل؟ وكانت الصحف ملقاة على الأرض والراديو الذي تركته في الليل مفتوحًا أخذ يتلو نشرة الأخبار، وكانت أم سعد تنظر إليّ تارة وإليه تارة أخرى وبدت لي نظراتها وهي تنتقل مني إليه، إنما تمد بيننا قضبان من حديد تعجز كفاي عن هزّها، ثم قالت: أتحسب أننا لا نعيش حبس؟… الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع!» ثم تضيف واثقة في النهاية: «اسمع أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس. الحبس كلّه! أتفهم؟[6]

إن تلك الابتسامة التي تضعها أم سعد على شفتيها، والسخرية من مفاهيم الحبس والحرية المغلوطة حتى عند المثقفين، تعكسان عزمها الحاسم على تغيير سرديتها، بل يبدو كلّ الحوار المعكوس في أدواره إشارة إلى فعل المقاومة إزاء ذلك.

المتفائل والمتشائم والمستقبل بينهما

يتضّح أسلوب حبيبي التراجيكوميدي بامتياز في روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» التي تعبّر عن اغتراب الفلسطيني الباقي في أرضه واضطراره للتعامل مع ازدواجية وانفصام سلطة الاحتلال الإسرائيلي على المدى اليومي إلى الحد الذي تتداخل هذه الازدواجيات في كيانه وحتى في كنيته: المتشائل. تتعدد المآزق التراجيكوميدية التي يقع سعيد المتشائل ضحيتها في الرواية، ويبلغ هذا الالتباس حدّه حينما يعتقل المتشائل لأنه رفع علمًا أبيض على عصا مكنسة عندما سمع النداء الموجّه في الإذاعات: «نداء المذيع موجّه نحو عرب الضفة، أن يرفعوا الأعلام البيضاء استسلامًا أمام الاحتلال الإسرائيلي. فما شأنك أنت في ذلك في حيفا، التي هي في قلب الدولة ولا يعتبرها أحد مدينة محتلة؟».[7] وحتى إن كانت تلك الالتباسات التي يقع فيها سعيد تعكس سذاجة في ظاهرها، إلا أنها تشير بوضوح إلى منطق الخلل: الدولة التي ما زال هناك من يعتبرون مدنها محتلّة.

أمّا في ذلك الحوار الذي يدور بين سعيد والرجل اللاجىء في الزنزانة، فيعيد ترتيب ملامح الفلسطيني بعد النكسة تبعًا للمكان الذي انتهى إليه: «قلت: هل هذه هي الزنزانة؟ فسأل: أول مرة؟ قلت: هناك غرفة بلا نوافذ.. قال: هناك أمل بلا جدران. قلت: وأنت؟ قال: فدائي ولاجئ، وأنت؟ فتحيرت في هويتي كيف أنتسب
أمام هذا الجلال المسجّى..». هذا هو الفلسطيني الباقي في أرضه، وقد تحوّل الداخل إلى حبس تحت سلطة الاحتلال، فيما يظلّ أمل الفلسطيني المُهجّر بلا جدران، في واقع لا يمكن أن يبنى إلا على التشاؤل.

وعلى الرغم من أن المتشائل يعيش مغتربًا داخل وطنه المُحتل وعن لغته العربية، إلا أن لغة البناء السردي وتركيبه يحاكيان السير والوقائع العربية التاريخية بفصاحة بالغة. قد تبدو هذه المحاكاة في أسلوب حبيبي ساخرة من الواقع العربي الذي يفتقر إلى بطل تاريخي، إلا أنها في رأيي لا تغفل عن ذكاء ونباهة البطل الذي يضطره الواقع والسلطة إلى التغابي رغمًا عنه.

أما التركيز على استخدام الفعل المضارع في عناوين الأجزاء مثل: «سعيد يدخل إلى إسرائيل» و«سعيد ينتسب» و«كيف تحوّل سعيد إلى هرة تموء» وغيرها فإنه يولي أهمية للفعل بذاته بعيدًا عن الأسماء والصفات والحشو المعتاد. وإن كان هذا الفعل عبثيًا ساخرًا، فإنه يحارب اللافعل والاستسلام إلى عبثية الواقع ويعكس نوعًا من تغيير السردية، حتى لو كان الطريق إلى ذلك أسلوبًا تراجيكوميديًا مُضلّلًا أحيانًا. والمفارقة أن هذا الأسلوب يحاكي أيضًا أسلوب كنفاني في مجموعته القصصية «عن الرجال والبنادق» وتوظيفه للفعل المضارع في العناوين الثورية مثل: «الصغير يستعير مرتينة خاله ويُشرّق إلى صفد»، «الصغير يذهب إلى المخيّم»، «الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس» وغيرها. إن هذا النزوح إلى توظيف الفعل المضارع بدلًا من الأسماء والصفات المعتادة في عناوين القصص عند كنفاني يؤكّد على التفات كنفاني إلى الفعل الثوري وإدراكه لحتمية تغيير السردية التي تبني عليه.

من هنا، تعبّر رواية كنفاني الخالدة «عائد إلى حيفا» عن تطلّعه إلى المستقبل الفلسطيني بعيدًا عن تلك النهايات التراجيدية البحتة، خلافًا للنهاية في روايته «رجال في الشمس». بل إنه استطاع أن يجعل سعيد العائد إلى حيفا يكمل مهمته التي جاء من أجلها، رغم أن كل ما حدث حاول ربط لسانه وإعادته إلى الوراء: «حين وصل سعيد إلى مشارف حيفا قادمًا إليها بسيارته عن طريق القدس، أحس أن شيئًا ما ربط لسانه، فالتزم الصمت وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت».[8] ورغم هذه التراجيدية التي تغلّف السطور الأولى في افتتاحية الرواية، فإن عنصر البكاء الصامت يمتزج نهايةً بالضحك في مشهد تراجيكوميدي مؤثر، عندما يقف سعيد في وجه ابنه دوف؛ الانفصام الذي خلّفه الاحتلال، ويضحك عندما يقول له:

– ليس من حقك أن تسأل هذه الأسئلة. أنت على الجانب الآخر.
– أنا؟ أنا على الجانب الآخر.
وضحك بقوة ، وشعر بأنه عبر تلك القهقهة العالية كان يدفع بكل ما في صدره من أسى وتوتر وخوف وفجيعة إلى الخارج، ورغب فجأة في أن يظل يقهقه ويقهقه حتى ينقلب العالم كله، أو ينام، أو يموت، أو يندفع خارجًا إلى سيارته، إلا أن الشاب قاطعه بحدّة:
– لست أرى سببًا للضحك.
– أنا أرى.

إن الضحك هنا سيّد الموقف، والإصرار على القهقهة في هذه المواجهة ما هو إلا إصرار على المقاومة ومحاولة تغيير رد الفعل الرومانسيّ إزاء المأساة. وعلى الرغم من أن أعمال كنفاني السابقة كانت تتراوح بين التراجيدية والرومانسية، فإن التراجيكوميديا هنا تعبّر في جوهرها عن تغيير توجهات كنفاني إلى مستقبل القضية والثورة.

يناقش إلياس خوري في مقاله «حرية الإبداع» ضرورة الابتعاد عن ردة الفعل الرومانسية التي «يتزايد حجمها مع تزايد وزن المقاومة الوطنية للاحتلال، فهي محاولة للعودة إلى الوراء، محاولة للتقليل من حجم الذي حدث ولآثاره المدمّرة»[9] وفي المقابل، فإن خوري يوضّح مهمّات زمن الاحتلال من خلال التزاوج بين مسألتين، هما: تحليل الواقع واستيعابه واكتشاف عناصر المقاومة فيه، والسعي إلى النقد الذاتي الذي يكشف عن الأخطاء والثغرات في المرحلة الماضية. ومن هنا، فإن سرديات كنفاني وحبيبي على اختلافها تعتبر جزءًا من هذه المهمّة.

في النهاية، لأنني مثلما قال إلياس خوري «لست من دعاة إلصاق صفة المقاومة بالأدب، فالأدب كي يكون أدبًا، لا يستطيع أن يكون إلا ابنًا لزمنه وجزءًا منه، إنه لا يعكس الواقع بل هو أحد أطرافه، إنه لغته… الاحتلال هو زمن فقدان اللغة بامتياز»،[10] فإنني أعتقد أن السيطرة على مفاتيح اللغة في الأدب والتحكم من خلالها في البنية السردية وما يتخلّل ذلك من تمرين وتطويع وبحث عن أساليب مغايرة يعتبر دلالة على الوعي بفعل المقاومة.

عن موقع مجلة حبر الإلكترونية


الهوامش

[1] مثل إلياس خوري في «تجربة البحث عن أفق: مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة» عام 1975، و سليمان الأزرعي في «البحث عن وطن: دراسة في رواية ما بعد حزيران»، عام 2004.

[2] إشارة إلى العبارة الأخيرة من رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» عام 1963: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟» واعتُبر هذا السؤال استنكارًا لفعل الاستسلام للموت وجلدًا للذات العربية الفلسطينية على صمتها بعد النكبة.

[3] التراجيديا والكوميديا؛ نوع أدبي يمزج بين الضحك والبكاء، والألم والسخرية، ينعكس من خلال شخصيات المسرحية أو الرواية. وقد تغير مفهوم التراجيكوميديا عبر العصور، إذ اعتبرت المسرحيات الإغريقية التي تغلب عليها عناصر التراجيديا (المأساة) وتخالطها بعض عناصر الكوميديا (الملهاة) مسرحيات تراجيكوميدية، إلا أن المفهوم تطوّر في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر في المسرح الباروكي وصار يعني كل مسرحية لا تنتهي بالموت. أما في العصر الحديث، فإنه يمثل الرواية أو المسرحية التي لا تنتهي بنهاية تراجيدية حزينة ولا حتى كوميدية سعيدة. انظر/ي التراجيكوميديا ترتبط بالعصور والحبكة القصصية.

[4] سداسية الأيام الستة/ إميل حبيبي.

[5] إشارة إلى مجموعة غسان كنفاني القصصية «عن الرجال والبنادق» عام 1968، حيث مثّلت <الملاحظة> الأخيرة التي أضافها كنفاني إلى المجموعة تحت عنوان «أم سعد تقول: خيمة عن خيمة تفرق» تمهيدًا إلى رواية أم سعد فيما بعد.

[6] أم سعد، غسان كنفاني.

[7] الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل/ إميل حبيبي.

[8] عائد إلى حيفا، غسان كنفاني.

[9] زمن الاحتلال ، مقال «حرية الإبداع» عام 1983، إلياس خوري.

[10] نفس المصدر السابق.

شروط الاستخدام

محتوى حبر مرخص برخصة المشاع الإبداعي. يسمح بإعادة نشر المواد بشرط الإشارة إلى المصدر بواسطة رابط (hyperlink)، وعدم إجراء تغييرات على النص، وعدم استخدامه لأغراض تجارية.

حبر مؤسسة إعلامية ومجلّة إلكترونية، انطلقت من الأردن في عام 2007 كمساحة لإعلام المواطن تدار بشكل تطوعي، وتحولّت في عام 2012 إلى مجلة صحفية احترافية تنتج صحافة معمّقة متعددة الوسائط، وتحليلات نقدية، وحوارات عامّة، حول قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)