إبراهيم أصلان، 11 قصة منسية (مصر)، قصص أسبوعية “أخبار الأدب” القاهرية - العدد 1282/ 18-2-2018

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الإثنين 05-03-2018
المدن - ثقافة
شريف الشافعي


بواكير إبراهيم أصلان.. عصافير السرد في أعشاشها


ابراهيم أصلان بريشة عادل السيوي


هل يمكن استقطاع مجموعة لوحات صغيرة من الجدارية الأم؟ سؤال ليس بالهيّن، على الرغم من أن هذه الجدارية قد تكون مصوغة في الأساس من وحدات وقطع صغيرة تتجاور في انسجام وتآلف وتلقائية.

الحياة الكاملة التي يكتسبها “الكل” من اندماج الأجزاء الدقيقة، قد تتوافر للجزء الواحد المستقل حال التفكك، وقد لا تتهيأ له، وهذا يتوقف على طبيعة هذا الجزء، وهل أراد له المبدع أن يكون مشهدًا فنيًّا مكتملًا بحد ذاته رغم اختزاله. أم أنه مجرد مكوِّن من مكونات النسق، لا يعني شيئًا حال انفراده وعزله؟

يتفرد إبراهيم أصلان (1935-2012) في أعماله الروائية الزاخمة أو جدارياته الحكائية، بتلك القدرة الفائقة على اصطياد اللمحات الحياتية العابرة، لدى بشر يبدون عاديين، يمارسون أفعالًا مجانية، لكن البطولة دائمًا للرؤية المغايرة، وللكادر الحي الذي يلتقط عمقًا إنسانيًّا لا يتاح تصويره بكاميرا آلية تنقل الواقع كما هو.

تشريح اللحظة بأناة واصطبار، وتفجير طاقاتها الكامنة، وتوسعة الهامش كي يطل منه الراوي والقارئ معًا على فضاءات وإفضاءات شخصيات ثرية بحجم ما تحمله من معاناة وصراع، هي السمات المميزة للمشاهد التي تحمل بصمة أصلان، سواء في قصصه القصيرة، أو رواياته.

هذا الصيد الماهر النادر للقطات المكثفة، يزيده نصاعة بخلٌ شديدٌ في الكلمات، فلا مجال للاستزادة الترفيهية أو الحشو في اللغة التلغرافية الوامضة، المحملة بالشعرية الخام، الشعرية كحالة تفجيرية تضيء الطقس التفاعلي كله وليس فقط البناء التعبيري والتصويري والتخييلي.

التوقف عند مقطع أو مشهد روائي، بمفرده، لدى أصلان، وعزله “افتراضيًّا” عن السياق الكلي هو في كثير من الأحوال تَمثُّل لحالة حياتية مكتملة يمكن استقطاعها كقصة قصيرة منفردة، تحكي موقفًا لحظيّاً، تستفيض العين الخبيرة في روايته وتحليله، وتخرج الروح من القراءة متشبعة راضية.

يتجلى ذلك بشكل خاص في روايته “عصافير النيل”، وهي رواية أجيال يتشابك فيها الشخوص وتتلاحق الأزمنة في مكان محوري، وحوله، هو شارع فضل الله عثمان بحي إمبابة. فبإمكان كثير من الكادرات الجزئية في هذا العمل أن تقود إلى قصص قصيرة مستقلة، من فرط غناها واحتوائها العناصر الكاملة للقصة.

هذا الأمر هو شأن أعمال كبرى في الروايات الملحمية، منها “الحرافيش” لنجيب محفوظ على سبيل المثال، التي قسمها بالفعل كتاب سيناريو ومخرجون إلى أفلام سينمائية عديدة، يصور كل منها جانبًا قصصيًّا محبوكاً أو جوانب من النسق الروائي الكبير الشامل.

هكذا يقودنا “الافتراض”، أو الأمر الذي لم يحدث بإرادة إبراهيم أصلان، إلى أن استقطاع مشاهد معينة منتقاة من رواياته قد يفضي إلى قصص قصيرة مكتملة بامتياز، بحد ذاتها، إذ تحتفي كتابته بالجزئي إلى أبعد الحدود، والتفصيلي، والتشريحي، واستقطار أقصى ما تجود به اللحظة من عصارة إنسانية خلاقة، ونماء درامي يتكشف عادة بالحوار.

ماذا عما حدث فعلًا، وبإرادة الكاتب، الذي نشر عددًا من القصص في مجلات أدبية منذ ستينيات القرن الماضي، بوصفها قصصًا قصيرة، ثم ظهرت هذه القصص لاحقًا كما هي بالضبط، أو بتصرف طفيف، بوصفها “مشاهد” ضمن رواية “عصافير النيل”، التي فرغ من كتابتها في صيف 1998 (وفق توقيعه في نهاية الطبعة الصادرة عن دار الشروق في 2005) ؟



يثير نشر أسبوعية “أخبار الأدب” القاهرية، 11 قصة قصيرة لإبراهيم أصلان، لم ينشرها في كتبه، أكثر من إشكالية. إذ تصف الصحيفة (العدد 1282/ 18-2-2018) هذه القصص بأنها “منسية”، مشيرة إلى أن بعضها من قصص البدايات التي شعر أصلان بأنه قد تجاوزها في ما بعد، رغم أنها تحمل ملامح من عالمه وأسلوبه الذي نسجه ببراعة وعلى مهل.

وتوضح الصحيفة في تصديرها للقصص “المنسية” أن بعضها تحول لاحقاً إلى روايات طويلة، ومن ثم فإن هذه القصص “لم تكن إلا تمارين على كتابة الرواية”. وفي هذه القصص نجد أبطال روايته “عصافير النيل”: محمود الفحام، محمد أفندي عثمان، محمد أفندي الرشيدي، البهي عثمان، وغيرهم، إذ يحكي أصلان قصصهم منفردة في مشاهد مستقلة.

وتذهب الصحيفة إلى أن قصص هذه الشخصيات تتحول إلى روايته البديعة “عصافير النيل”، بعد يجدُلَها ببراعة صائغ الجواهر، فهي تكشف كيف يجمع حبات مسبحته بعناية، ثم يلضمها بعضها ببعض ليصنع منها عقده الفريد، وتقول الصحيفة: “لم تكن القصة لدى أحد أهم كتابها سوى تدريبات قصيرة على كتابة أشمل فيما بعد”.

بداية، إلى أي مدى يصح تسمية هذه القصص بالمنسية؟ تستند الصحيفة إلى أمر واحد، هو أن الكاتب لم ينشر هذه القصص في كتبه، وهي قصص: الأستاذ والدوامة، الدرب والعالم، مأساة الفحام، الوعاء، وقت للكلام، السلالم، مشهد عائلي، الصاحبان، حفنة نور، العم محمد، جلباب صغير أخضر.

يبدو أن الرغبة في الإيهام بتصوير الأمر على أنه “كشف” هي التي تقف خلف هذه التسمية، فالقصص منشورة في مجلات ورقية ذائعة الصيت (القصة، الثقافة، إبداع، الدوحة، البيان الكويتية، الخ) منذ النصف الأول من الستينيات حتى مطلع التسعينيات، وهذا أمر يزيل عن القصص احتمالية النسيان. كما أن هذه القصص، وغيرها، لإبراهيم أصلان، وغيره من الكتّاب، مؤرشفة بدقة، ومثبتة بوضوح، في الإنترنت - موقع “أرشيف المجلات الأدبية والثقافية العربية” وهو الموقع ذائع الصيت، الذي يشكل مرجعاً معروفاً للمتخصصين والنقاد والمهتمين بالأدب.

أما عن عدم إدراجها في كتب، فربما لا يعود ذلك إلى رغبة مؤلفها في إهمالها، إذ قد يكون رآها غير متجانسة مثلًا مع أجواء مجموعاته القصصية اللاحقة، أو أنه اكتفى بنشر بعضها في المجلات المقروءة جدًّا في ذلك الوقت. وقد تكون رغبته في إدراج بعضها ضمن فصول روايته “عصافير النيل”، جعلته يمتنع عن إعادة نشرها منفردة كقصص قصيرة في كتاب، مثل “حفنة نور”، التي استعان بها أصلان بتصرف في روايته بدءاً من صفحة 17، ويقول مطلع القصة: “النور انقطع فجأة على أم عبده وهي قاعدة تتفرج على التليفزيون، الخ”، وفي الرواية: “مرة، النور انقطع فجأة على نرجس وهي قاعدة تتفرج علي التليفزيون، الخ”.

وفي كل الأحوال، تبقى هذه القصص حاضرة في الذاكرة، وغير منسية، كونها منشورة وموثقة عبر أكثر من وسيط ورقي وإلكتروني، قبل نشرها الأخير في الصحيفة القاهرية، الذي شهد العديد من الأخطاء المطبعية (يطرد عن “رزسه” هذه الخواطر/ بدلًا من “رأسه”، وجفف “عينه” الدامعتين/ بدلًا من “عينيه”، الخ)، كما شهد أخطاء في نسبة القصص إلى المنابر التي نشرت فيها للمرة الأولى (كما في قصة “حفنة نور”، المنشورة في صفحة 79 بمجلة الدوحة القطرية في يونيو 1983، وليس في يونيو 1981 كما ذكرت “أخبار الأدب”).

وبالنسبة إلى طبيعة تصنيف هذه الكتابات، ومنها مثلًا “الوعاء”، فيمكن الرجوع إلى الأصل المنشورة فيه، وهي مجلة الثقافة/مارس 1964، إذ تقول المجلة بوضوح “قصة قصيرة بقلم: إبراهيم أصلان”، وهكذا حال بقية القصص التي نشرت في المجلات قبل سنوات من رواية “عصافير النيل”، فضلًا عن أن بعض هذه القصص لم يَرِد أصلًا في الرواية، فلا يجوز اعتباره هامشًا ابتدائيًّا لعمل مقبل.

من الوجهة الإجرائية، رجوعًا إلى مبادرة الكاتب نفسه بنشر أعماله على هذا النحو وإقدام مجلات بهذا الوزن على قبولها والاحتفاء بها، فإن هذه الكتابات أريد لها أن تكون قصصًا قصيرة كاملة ومستقلة، فهل من الممكن وصفها بأنها “تمرينات” أو “تدريبات” على كتابة الرواية، بما يوحي بأنها مجرد مسوّدات مبتسرة أو بدايات أولية؟

بديهي أن الكاتب يتطور، ويشعر بين الحين والآخر بأن عليه تجاوز منجزه السابق، وقد يدفعه ذلك إلى إسقاط بعض أعماله أو حتى تمزيقها، كما أن شخصياته تنمو، وعالمه يتسع، بما يدفعه إلى إعادة الاستفادة من صياغاته السابقة، وتضفيرها من جديد في سياقات أرحب وأكثر تشابكًا. لكن، من الوجهة الفنية، فإن هذه اللقطات المنشورة كقصص، بل وغيرها من المشاهد الدرامية في رواية “عصافير النيل”، يمكن استقطاعها بأريحية لتعبّر عن ذاتها كأعمال قصصية مستقلة ناضجة، ومنها “مشهد عائلي” على سبيل المثال (مجلة إبداع، مارس 1991)، تلك القصة التي تصور بعيون رائقة وروح سينمائية بارعة، طقوس غسل الميت وتكفينه ودفنه، عازفة بحساسية على أوتار قلوب أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر، وأحدهم قد تطوع لغسل الميت من دون سابق خبرة، وقد استدعاها أصلان في “عصافير النيل” (بدءًا من صفحة 164).

باختصار، فإن قصص البواكير لإبراهيم أصلان، هي عصافير السرد في أعشاشها، إلا أنها قادرة على الطيران، والتحليق بعيدًا بمفردها.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)