أفاعي النار، جلال برجس (الأردن)، رواية مؤسسة كتارا - 2015

, بقلم محمد بكري


جريدة رأي اليوم الإلكترونية


الجمعة 4 مايو 2018
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
موسى إبراهيم أبو رياش - الأردن


إبداعات النار في رواية ” أفاعي النار” لجلال برجس


نالت رواية “أفاعي النار : حكاية العاشق علي بن محمود القصاد” للروائي الأردني جلال برجس جائزة كتارا للرواية في دورتها الأولى 2015 عن فئة الروايات غير المنشورة برفقة أربع روايات أخرى، وصدرت عن مؤسسة كتارا باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، ولاحقاً بالهندية والصينية والإسبانية.

حظيت الرواية بمقروئية جيدة، ومتابعات ومقالات عديدة تناولتها من جوانب كثيرة، وأشادت بها على أكثر من صعيد، كما أقيمت لها عدة حفلات توقيع في كل من قطر والأردن ومصر وغيرها.

النار هي الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي الفاعل الأكبر المؤثر فيها، وربما لولا النار لما كانت الرواية، فالنار هي التي خلقت الرواية، وهي التي تحرك شخوصها، وتوجه أحداثها، وتسيطر على مفاصلها، وكل نار تشبُّ أو تُوقد تكتب فصلاً جديداً في الرواية، بها بدأت الرواية، وبها انتهت. رواية مشتعلة من بدايتها إلى نهايتها، تكاد تشعر وأنت تقلب أوراقها أنها/أنك قد تحترق بين لحظة وأخرى.

النار في ظاهرها شر، وفي الرواية تبدو للوهلة الأولى أنها خطر ودمار وسبب في التشريد والموت، ولكن بنظرة متأنية عميقة، نجد أن النار كان لها أثر إيجابي فاعل ومنتج، ولولاها لما حيك نسيح هذه الرواية، بأحداثها المثيرة، وتحولاتها المهمة، وأسئلتها المقلقة التي تصبُّ في تيار الوعي بقوة.

رواية “أفاعي النار” تحيلنا إلى كتاب ( “إبداعات النار: تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري” لمؤلفيه كاتي كوب وهارولد جولد رايت، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة 266، فبراير 2001، الكويت). فالكتاب يؤكد حقيقة لا مراء فيها، وهي أن النار سر تقدم البشرية وحضارتها وخاصة في مجال الكيمياء، فبدون نار لا توجد صناعة، وبالتالي لا توجد حضارة.

ولو عدنا إلى فجر التاريخ لأدركنا أن استخدام النار كان الفارق الأول بين الإنسان والحيوان، فعندما روض الإنسان النار واستخدمها في طهيه وتدفئته وإنارة بيته ودربه، فقد تقدم خطوات إلى الأمام، وجعل من النار صديقاً بعد أن كانت عدواً يخشاه ويَفْرَق منه. ومن النار انطلقت شرارة الحضارة الإنسانية.

النار ليست شراً مطلقاً، فكما أنها تحرق وتؤلم وتشوه وتشرد وتدمر وتميت، فإنها في المقابل تنبه، تنضج، تسخن، تصهر، تذيب، تكوي، تغلي، تنير، ترشد، تدفئ، تنذر، تجمع، تؤنس، تهدي، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ، إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى[طه:9-10]

إن النجوم ومنها شمسنا نيران هائلة مشتعلة، تمد كوكبنا بالدفء والحرارة اللازمة والضياء، ولولاها لانعدمت الحياة. وحتى الكهرباء التي تضيء بيوتنا، وعالمنا كله، وبها تعمل معظم الآلات هي شكل من أشكال النار، وما الضوء إلا ابن للنار!

الماء نقيض النار، والشائع أنه ري ونماء وحياة، ولكن ضحايا الماء أكثر من ضحايا النار، وإحصائية ضحايا سنة واحدة لكل من الماء والنار ستؤكد هذه الحقيقة الصادمة!

وفي رواية “أفاعي النار” يظهر الوجه الشرير للنار لأول وهلة، ولكن التأمل في أحداث الرواية وتصاعدها ومآلاتها، يؤكد أن الجانب الإيجابي هو الأبرز، وإن كان في ظاهره غير ذلك.

وردت النار في سبعة أحداث رئيسة فاصلة، وكل حدث يمهد لما بعده، بل هو السبب الرئيس له، لكأن درجة النار وقوة اشتعالها هي التي تتحكم بدرجة النضج واستواء الرواية على سوقها.

عنوان الرواية الرئيس “أفاعي النار” أستُلهِم من كابوس رآه الروائي خاطر بعد أن احترق بيته وروايته.. “أصبحت مستباحاً من قبل كابوس مرعب، أرى فيه ألسنة النار استحالت أفاعٍ مخيفة، بت أخشى النوم جراءها، وهي تأكل جسدي، ولا تترك له بقايا سوى الرماد، وأنا أصرخ، وأستغيث السماء أن ترسل أمطارها لتطفئ النيران، فتهرب تلك الأفاعي.”(25). وبقي الكابوس يراوده كل ليلة، ينغص عليه، ويحرمه النوم، ولم يتوقف إلا بعد أن التقى بالحكاءة، وبدأت تقص حكايتها.

الحريق الأول شب في بيت خاطر؛ إثر سيجارة نسيها مشتعلة، وغفل عنها بفعل نشوة الانتهاء من الرواية، وخمرة الحب التي تذوقها بعد أن انشغل عنها من قبل بكتابة الرواية. أتى الحريق على نصف محتويات البيت، وعلى الأخص صورة أمه المعلقة على جدار غرفة مكتبه، وجهاز الحاسوب الذي يحتوي على النسخة الوحيدة واليتيمة من روايته… “بعد أن استجمعت قواي، وجدتني أهذي وأنا أحاول التملص من أياد منعتني من العبور نحو البيت، (أمي… الرواية… أمي… الرواية).”(16)، وما أصعب أن تفقد الصورة الوحيدة لأعز الناس عليك، فقد الصورة لن يُنسي الأم بالتأكيد، ولكن لأن “الصورة رديف ما تخبئه الذاكرة من تفاصيل وملامح.”(17)

لم يشغل بال خاطر وسط الحريق الذي يلتهم البيت إلا الأم والرواية، نسي كل شيء ما عدا الأم والرواية، وصرخ يهذي (أمي… الرواية… أمي… الرواية). متلازمة الأم والرواية التي سيطرت على خاطر لها ما يبررها؛ فالأم هي الرواية الأجمل لكل منا، سواء أكتبها أم لا، رواها أم احتفظ بها في أعماقه تملأ قلبه وعقله وروحه، يعتصم بها كلما داهمته الخطوب، وآلمته الجراح، وتكالبت عليه الأخطار، وعصفت به الأنواء.

وجاءت النار لتنقذ خاطر من وهم الصورة، فالأم لا نتذكرها بالصور، فهي لا تغيب عن البال، فالصورة لا تختصر الأم، ولا تعبر عن الأم. الصورة مجرد لحظة محنطة للأم، لا تستطيع أن تصور إلا ظل هذه اللحظة، أما اللحظة نفسها، فهي حياة لها رائحتها وحرارتها وأجوائها وظروفها وإشراقها وسحرها، تعجز كل صور العالم أن تصورها أو تُحيط بها.

فقد الرواية، يعني خسارة عامين من الجهد المتواصل دون كلل أو ملل، ومن يستطيع البدء من جديد، وكل لحظة إعادة تذكره بخسارته الموجعة، وحسرته على ما فات؟

تسبب الحريق بخسائر كبيرة لا شك، ولكن في المقابل فهو درس قاسٍ لخاطر، تعلم منه كثيراً، ويبدو أننا لا نتعلم من خبرات وتجارب الآخرين، بل لا بد أن نحترق بالتجربة، وتنضجنا نارها الموقدة. فخسارة صورة الأم والرواية ما كانت لتكون بهذا الحجم لو تدارك خاطر الأمر وأخذ بالأسباب ولم يسوف أو يؤجل. فعن صورة الأم يقول خاطر قبيل الحريق: “تذكرت وأنا أراقب الصورة، أنني طالما خططت للذهاب إلى معمل الصور الفوتوغرافية، لأقتني نسخة أخرى منها. لكن ذلك لم يحدث.”(13)

وعن الرواية يقول: “هممت بتحميل الرواية على البريد الإلكتروني، لأرسلها إلى الناشر، فأضع آخر نقطة في جهد عامين، لكني وجدت رصيد وصلة الإنترنت قد نفد، فأغلقت الحاسوب، وفي نيتي أن أرسلها صباحاً.”(12) فأي عاقل يضع بيضه في سلة واحدة؟! هل جهد عامين لا يستحق أن يُنسخ منه بين كل فترة وأخرى عدة نسخ نحتفظ بها في غير مكان؛ تجنباً للأسوأ؟!

جاءت النار صفعة قوية لخاطر ومن على شاكلته، لئلا نترك الظروف تتحكم بنا، بل نحن من يصنع الظروف، ونهيأ الأسباب، ونرسم خرائط الحياة.

إن السيجارة التي أحرقت البيت، أحرقت من قبل كل أحباب خاطر، عندما أحرق نفسه بالتدخين، وأحرق ماله، وأجبرهم على التدخين القسري رغم أنوفهم وإن لم يقصد. نعم كان الثمن غالياً، ولكن الدرس يستحق لمن يقدر قيمته، ويدرك أبعاده وأهميته.

الحريق الثاني في الرواية هو الذي يراه خاطر في كابوسه اليومي بعد احتراق البيت، والذي أشرنا له من قبل عند الحديث عن عنوان الرواية، وهو كابوس تسببت به الضغوط النفسية الكبيرة التي يرزح تحتها خاطر، وتأنيب الضمير، وفداحة الخسارة. وجنس الكابوس من جنس ما حدث. وفي هذا الكابوس كان يخشى من الأسوأ لولا تدخل الجيران وتنبههم للحريق، وإلا للتهمه الحريق، الذي بدأ من الغرفة المقابلة لغرفة نومه.

تكرر الكابوس في كل ليلة، زاد الطين بلة، وحاول خاطر بكافة الطرق الخلاص منه دون جدوى، وبما أنه المتسبب بالحريق ومن ثم الكابوس، فالحل بيده وحده، ولذا حاول مراراً أن يتغلب عليه بإعادة كتابة الرواية فلم يستطع، وعندما وجد ضالته عند الحكاءة، وبدأت تسرد حكايته المحترقة وبعثتها من تحت الرماد، استرجع قدرته وشهيته للكتابة، فبدأ يكتب، وتوقف الكابوس عن زياراته الليلية.

الكابوس يجثم على المرء نتيجة ضغط كبير، وقلق وخوف وفقد وعدم الشعور بالأمان، والحصيف من يلتقط الإشارة، ويفهم الرسالة، ويبحث عن الخلاص، وقد عرف خاطر طريقه، ولكن بعد جهد جهيد، ومحاولات للخلاص، وضياع وقت، واحتراق أعصاب، ولكنه وصل في النهاية دون تخطيط مسبق، وإنما ساقه القدر بعد أن أعياه البحث، وأنهكه المسير. قام بالمطلوب، فظفر بالمحبوب!

الحريق الثالث رأته الحكاءة في المنام: “رأيت في منامي ناراً تشتعل ببيت، ورأيت رجلاً يحترق. كنت، كما رأيتني، بهيئة وحالة لا تأكلها النار، كأنني ملاك خلق من طيف لا حيلة لشيء على تبديده. فعبرت البيت خلال ألسنة اللهب والدخان، وحملت الرجل الذي كان قد تشوه محترقاً، ووضعته خارج البيت، ثم عدت لأطفئ ناراً وجدتها لا تأكل مني شيئاً، كأنني أصبت ببركة أبينا إبراهيم.”(33-34)

ثم تكمل الحلم بأنها أخمدت النار، ووجدت دفتراً دونت فيه حكاية الرجل، احترقت أطرافه، وتشوهت كثير من كلماته بفعل الحرارة، وأنها لما عادت لم تجد الرجل، وأنها أعادت بناء حكاية الرجل وتعبئة فراغاتها بما اكتسبته من خبرة في الحكايات من قراءاتها الكثيرة لأعلام كتاب الرواية.
هذا الحلم كان مختلقاً كما سيظهر في نهاية الرواية، ولكن لضرورات الحكاية والتشويق وتبرير حصولها على الحكاية ادعت أنها رأت هذا الحلم، وإن كانت تفاصيله قريبة من الواقع.

كانت النار متواطئة مع الحكاءة، لم تمسسها بسوء، مع أنها أحرقت ما عداها، ولعبت النار هنا دور الكشف والتوضيح، إنها نار المعرفة، نار الحقيقة، التي جمعت بين العاشقين، ولكن بعد فوات الأوان.

أحرق الحريق الرابع كتب وأوراق بارعة، الطالبة النجيبة للمعلم ابن القصاد على يد إخوتها بتحريض من قريبهم سليم المشاي وإقرار من أبيهم، فالقراءة والكتابة لوثت عقل بارعة، فهي تكتب عن الحب وعن الله وتتحدث عن تحرير المرأة، وتقرأ الروايات وتناقشها بتشجيع من ابن القصاد.

مؤلم بل ومفجع أن تُحرق الكتب والأوراق، وتفقد فجأة ما تحرص على تنميته والاعتزاز به، ولكن في الجانب الآخر كانت بارعة “تنظر إلى النار وقد علا دخانها، وهو ينشر رائحة الورق والحبر، ورائحة كلماتها التي كانت تشمها، صاعدة إلى الفضاء الفسيح، بينما في داخلها ترى عبر نشيجها، أن النار قد أخذت تطهر الكتب والكلمات وروحها من عالم قسى عليها.”(122). كانت النار التي اشتعلت في الأوراق هادية لبارعة إلى طريقها الجديد، بعد أن كشفت اللثام عن حقيقة من حولها، ورعبهم من وعيها، وقدرتها على التعبير عن دواخلها وهمومها وأفكارها. كانت النار منارة لبارعة، وإضاءة على ما حولها، ولا يهم أن تحترق الكتب، فقد اشتعل الوعي، وبانت الطريق. والوعي لا تزيده التحديات إلا قوة وعمقاً واتقاداً.

في الحريق الخامس احترقت غرفة ابن القصاد على يد إخوة طالبته بارعة أيضاً، بعد أن تجرأ على خطبتها، ورُفض طلبه. كان ابن القصاد يتوقع شراً بعد تنبيه شيخ المسجد، ولذا احترقت غرفته وهو يراقبها مختبئاً على سطحها، واحترق ما فيها من كتب وأوراق وأثاث.

إخوة بارعة بدو، والبدوي لا يلجأ إلى النار للخلاص من عدوه، بل القتل المباشر هو ما يرضيه ويطفئ ناره، ولذا لجأوا إلى النار للتحذير، ولو أرادوا ابن القصاد لقتلوه ثم أحرقوا الغرفة.

خسر ابن القصاد غرفته بما فيها، وخسر وظيفته أيضاً، ولكنه تأكد من حب بارعة له التي بكت بلوعة على أنقاض غرفته، وحملت أوراقاً لم تحترق بالكامل وهي تغادرها يقتادها شيخ المسجد المشفق على حالها وحاله. وكنتيجة حتمية للحريق كان لا بد لابن القصاد أن يبتعد تلافياً للأسوأ بناء على نصيحة ورغبة والده، فغادر إلى فرنسا مبتعثاً لإكمال دراسته.

أبعدت النار ابن القصاد عن وطنه وأهله وبارعة التي يحب، ولكنها كانت سبباً في نضوجه، فأكمل دراساته العليا في فرنسا، مما مكنه من التدريس في جامعاتها، والنشر في صحفها ومجلاتها، فأصبح علماً ومفكراً يُشار له بالبنان، ونشر كتاباً بعنوان “العيب والحرام”، “شارحاً التبدلات التي طرأت على هذين المفهومين، وما ألصق بهما من مفاهيم عطلت الحياة في الدول النامية.”(141)

إن متلازمة العيب والحرام، لا تزدهر إلا في المجتمعات المتخلفة والسطحية التي تعيش على الهامش، فالعيب عرف، والحرام دين، وعندما يصبح كل عيب حراماً تحدث الكارثة، والخلط وضياع البوصلة، وفي المقابل ليس كل حرام عيباً.

عندما يصبح الدين ميداناً مفتوحاً للفتوى والرأي والاجتهاد للجميع، دون ضوابط أو محددات أو معايير، يشخصن الدين، ويصبح لكل شخص دين مختلف عن الآخر، ومن هنا تحدث الفجوات، وتتسع، ويصعب ردمها، ومن ثم يتولد التطرف والتعصب والإقصاء المؤدي إلى طرق مسدودة بالضرورة.

لو مكث ابن القصاد في المدينة، حتى ولو تزوج بارعة، لبقي مجرد معلم مغمور، ينتظر كفاف راتبه آخر كل شهر، وترفيع بائس كل خمس سنوات أو أكثر، ولعاش ومات دون أن يأبه به أحد، ولكن كان للنار رأي آخر، فأبدعت طريقاً مختلفاً، ورسمت مساراً جديداً، ووهبت حياة لم تخطر له على بال.

طروحات ابن القصاد الجريئة أزعجت الجماعات المتطرفة، وأثارت حفيظتها، وبعد وصلات من التهديد والشتم، جاء الحريق السادس لشقة ابن القصاد في باريس على يد يوسف النداح زوج بارعة السابق، الذي التحق بالجماعات المتطرفة رغبة في الانتقام من ابن القصاد لا غيرة على دينه.. “أسرَّ لي الضباط الفرنسيين، أن دوافع النداح، كما اعترف، لم تكن إلا انتقاماً مني لتلك الحالة النفسية التي مُني بها، إثر سماعه بارعة تهذي باسمي في المستشفى، وفي سرير نومهما، مخالفاً بذلك الهدف الذي أرسلته جماعته لينفذ العملية لأجله.”(142)

مكث ابن القصاد أكثر من ستة شهور، وقد تشوه تماماً، وتحول إلى شخص آخر، ورغم أنه أنفق كل مدخراته على العلاج إلا أن ابن القصاد جديد ظهر، فأصبح غير مرغوب به في الحي، ولا في الجامعة، فعاد إلى عمَّان، وعاش فيها غربة ووحدة، وإزورار الناس عنه وخوفهم منه ونبذاً له، ومن ثم عاد إلى قريته، حيث يعشش فيها الجهل والخرافات وإهمال السلطات، والصراع السرمدي بين النور والظلام، والعلم والجهل، فكان صوت الجهل أعلى، لأنه يملك القدرة على الصراخ والفجور، بينما العلم والوعي يميل إلى الهدوء والمسالمة.

حريق شقة باريس، كشف المجتمعات على حقيقتها، فحتى باريس مدينة النور والعلم والحضارة لم تتقبل ابن القصاد بنسخته المشوهة، وخافت على مشاعر أطفالها، فنبذته، والجامعة التي نبغ فيها أبعدته. وبالمثل كانت عمَّان، فانتبذ فيها مكاناً قصياً، بعيداً عن الناس والاختلاط بهم، فهم يرفضونه ويبتعدون عنه. الناس يتعاملون بالقشور، وتهمهم السطوح الملونة الملساء، أما الجوهر وحقيقة الإنسان فهم في غنى عنها، لأنهم لا يملكون عدة الغوص في النفس البشرية، ولا يستطيعون النحت إلى ما تحت الجلد؛ للإطلاع على حقيقة الإنسان وماهيته الحقيقية. فكانت فرصة لابن القصاد أن يتعرف هذه المجتمعات الزائفة على حقيقتها دون رتوش، ويعرف إلى أي درك هوت، وإلى أي مصير ستؤول، وهو الضحية المركبة يُحاسب على شكل فُرض عليه، وأهمل فكره وعلمه ومن قبل إنسانيته.

وفي قريته التي تعاني من الإهمال الرسمي، وتنتشر فيها الخرافات، ويعم الجهل، أنكره الجميع، إلا قلة، منهم صديقه القديم سعدون الغاني، ولمعة التي كانت تحبه من طرف واحد ذات شباب.

في القرية حارب ابن القصاد الجهل بنشر الوعي، وحاول تحرير الناس من الخرافات والخزعبلات، ولكن المتطرف محمد القميحي كان له بالمرصاد، يشكك في كل ما يعمل، ويؤلب الناس عليه، ويحرضهم على لفظه والابتعاد عنه.

اشترت لمعة سراً البستان المهجور الذي تخفى فيه ابن القصاد أول عودته إلى القرية، وبنت فيه بيتاً صغيراً له ولها، ولما خططت ذات يوم لمفاجأته، عادت من المدينة، ومعها بارعة إلى بيت تلتهمه النيران بما فيه ابن القصاد، ولم يكن لبارعة نصيب أن تلتقي ثانية بالرجل الذي أحبت، ولكنها وجدت على كرسي خارج البيت دفتر ابن القصاد الذي دون فيه حكايتهما.

احترق ابن القصاد وغاب جسده إلى الابد، وأطلق المتطرفون آخر سهامهم على يد محمد القميحي وجماعته، ولكن حكاية ابن القصاد بقيت حية، نشرت بعد كتمان، ورفرف طائرها بعد أن كان يخشى الطيران، وحقق ابن القصاد في موته أكثر مما حقق في حياته، فليس بعد الظلام إلا النور، وبعد الجهل إلا الوعي، وبعد التطرف إلا التسامح، وبعد الكره إلا الحب.

وسيبقى ابن القصاد وبارعة رموزاً للجمال والحب والوعي، وفي المقابل سيبقى سليم المشاي ويوسف النداح ومحمد القميحي رموزاً للتطرف والكره والإجرام. إن نار الحب اللطيفة الهادئة التي تؤنس وتهدي وتنير الطريق دليلاً لمن يأت من بعد، ستهزم –لا محالة- نار التطرف مهما اشتعلت وعلت وأحرقت، وستخمدها بقوة الحب الناعمة، ولطف التسامح، ونقاء فطرة الإنسان التي تلفظ الخبث والزبد. وما نار التطرف إلا نار الكير الكريهة، التي تسلط على المعادن النفيسة، فتزيل ما علق عليها من صدأ وأوساخ وتكلسات، لتعود نظيفة نقية مشرقة تسر الناظرين!

نار إبراهيم عليه السلام التي أوقدها قومه للتخلص منه، من المؤكد أنها أعشت أبصارهم، وآلمت أجسادهم، وأنهكت من قبل قواهم في جمع الحطب، ولكنها لم تمسس إبراهيم عليه السلام وهو في أتونها، فالحب الذي يملأ شغاف قلبه لهم شفقة عليهم، كان درعاً له من النار، وفتح له طريقاً للخروج ليكمل أداء رسالته، رسالة الحب والإنسانية والطهر.

وبعد… أتت النار في بداية الرواية على صورة الأم الوحيدة، والنسخة اليتيمة من الرواية، ولكنها عوضته برؤية الأم في الحلم، أم تحكي وتتكلم وتسأل وتنظر إليه نظرات حانية، أم أعادت سرد روايته المحترقة بعد أن قوَّمت لغته، وسبكت عباراته، فاستوت ناضجة رشيقة؛ تلك هي رواية “أفاعي النار” إحدى إبداعات النار!!

عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية

من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية

سياستنا في هذه الصحيفة“رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.

اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.

لقراءة المزيد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)